جاسم الحلفي .. من سفوح قنديل الى نصب الحرية

بغداد- العراق اليوم:

حين تبحث بقلمك في سيرة أية شخصية سياسية عامة، وتمضي في طريق تاريخها الطويل الشائك، ستمر بمحطات مضاءة بمصابيح ملونة، وسترسل عبر شعاعها رسائل تفصح عن نجاح هذه الشخصية في موقف سياسي معين، أو تكشف لك عن أداء مبهر لها في مرحلة من مراحل عمرها السياسي. وما هذه المحطات المضيئة إلا علامات مميزة تشبه الى حد ما علامات الطالب المجتهد الذي تطرز شهادته الدراسية السنوية مثل هذه العلامات، وفي هذه الحالة سيكون لزاماً عليك أن تتوقف عند هذه المحطات، وتشير بقلمك الى كل محطة فيها، دون أن تتغاضى عن ذكر أي منها مهما كانت الدواعي والمسوغات، فتكون بذلك قد إخترت الجانب الحيادي الذي يجب ان تكون فيه، إن كنت فعلاً كاتباً، أو مؤرخاً محايداً، وعادلاً، ذا قلم مهني، وضمير أبيض. وسيكون العكس صحيحاً أيضاً، إذا ما عثرت في سيرة وتاريخ ذات الشخصية السياسية على محطات مطفئة، وأبواب محطمة، وجدران ملطخة بسواد الذل والعار والخذلان والإنكسار، فهنا يتوجب عليك التوقف عندها والإشارة اليها أيضاً مثلما فعلت مع تلك المحطات المضيئة لأن الموقف من هذه المحطات هو  بمثابة إختبار لحياديتك المهنية وعدم تحيزك الأخلاقي والوطني والإنساني.. وإذا كانت مهنيتك وأمانتك تتعرضان للإختبار وأنت تكتب وتؤرخ لشخصية سياسية عامة، فكيف سيكون حجم الإختبار لو كتبت عن شخصية خاصة ومحورية، ومؤثرة في الفعل السياسي والإجتماعي العراقي الحالي، وكيف سيكون الإمتحان لو تناولت شخصية ديناميكية وجدلية بل وإشكالية أيضاً، شخصية فاعلة تثير الجدل حولها وتدفع النقاش بسببها نحو حافات الإختلاف أحياناً، رغم أن صاحبها يتمتع بسلوك ممتاز وطبيعة اخلاقية واجتماعية حلوة؟ نعم، فلو تطلعتَ الى قسمات وجهه، وأمعنت النظر في سحنته السمراء، ستعرف أي رجل خلوق هذا الذي يقفُ أمامك، ولو جربت أن تحادثه، فستسمع الحوار العقلاني والوعي السياسي الحاد، الذي لم يكن حصيلة قراءات نظرية متراكمة فحسب، بل ستشعر أن هذا الرجل " الأسمر" ينحدرُ من تجربة طويلة في الحياة، وله باع في السياسة والعمل الميداني. لقد أردت أن أقول إن ما سنقرأه في هذه الإضاءة الخاصة، لم يأت من رجم الغيب ولا من مخيلة تأليفية ملهمة، إنما هو  تسجيل وتصوير بكاميرا (فوتو زمنية) - إذا جاز التعبير- إلتقطت بعدستها نضال  سنوات الرجل صوراً محكية، لتضعها في سطور أمام القارئ، وأمام عدالة التاريخ، دون رتوش أو تغيير، أو  أية إضافة.. إنها سطور أو  صور فحسب لمحطات في سيرة تمتد لأكثر من أربعة عقود كفاحية مثيرة لرجل إسمه جاسم الحلفي ..

جاسم الحلفي.. سمك مأكول مذموم!

قد يتفق معنا الكثير حول هذه القراءة المختصة بالدكتور جاسم الحلفي، وقد لايتفق معنا البعض أيضاً، فربما يراها الكثيرون قراءة منصفة لشخصية نضالية لها بصمة واضحة في سجل الوطنية العراقية، ولها تأثير كبير على واقع الحياة السياسية الحديثة.  وقد يعتقد البعض عكس ذلك، فيرى فيها تحيزاً  لشخص الحلفي. وفي كل الأحوال، فأن ثقتنا بنزاهة الغاية، وبذكاء القارئ العراقي ونباهته، وإدراكه لما بين السطور، تجعل هذه القراءة في مأمن، وتضعنا في مكان بعيد عن الإتهام. إن أهمية جاسم الحلفي لا تأتي فقط من المساحة الحزبية الواسعة التي يتحرك بها في ملعب عميد الأحزاب الوطنية العراقية، ولا من الدور الكبير والنشيط الذي يلعبه في نسيج الحياة الداخلية لعموم المجتمع الشيوعي فحسب، إنما أيضاً لدوره المعلن وغير المعلن في صناعة الحدث السياسي العراقي برمته، وكذلك لتأثيره في انتاج وانجاز الكثير من القرارات  المهمة عبر موقعه المميز في قيادة الحزب الشيوعي العراقي، وتحالف سائرون للإصلاح، وهو الموقع الذي استحقه الرجل بفضل جدارته وشجاعته وقدراته الشخصية المميزة، وليس لغير ذلك قطعاً، لقد أصبح الرجل شخصية وطنية لا يمكن الإستغناء عن وجوده أو حذفه من الفعل السياسي العراقي، حتى أن ثمة من بات يعتقد أن الكثير من التحولات الأخيرة، والإنتقالات الجوهرية التي حصلت في سياسة الحزب الشيوعي العراقي، أو في توجهات سائرون كان الحلفي احد مهندسيها، أو هي نتاج تحركاته النشيطة في الساحة المدنية، مع علمنا أن هذه الأفعال هي نتيجة عمل جماعي، أسهمت فيه قيادة الحزب الشيوعي المحنكة، القوية والمعروفة بجماعيتها. كما لا يمكن  تجاوز أدوار الكثير من العناصر الفاعلة في تحالف سائرون، سواء من جهة التيار الصدري أو من جهة العناصر المدنية المستقلة في هذا التحالف. وتأسيساً على هذا الإعتقاد أو  الظن، بل وعلى مجمل ما يقال ويذاع عن الرجل مدحاً أو ذماً، نستطيع القول أن هذه القراءة لن تحظى برأي وحكم واحد -وهو أمر طبيعي جداً - لكننا نطمح للوصول الى رأي مفاده أن هذه المقالة تمثل رؤية استخلاصية لحالة واقعة نراها ونعيشها ونسمعها كل يوم دون ان نجرؤ على التقرب منها، أو الخوض في شطوطها !  وكي نكون اكثر عدلاً سنوصف موقع جاسم  الحلفي ونقول هو يقع في "قلب تحالف سائرون النابض"، على اعتبار أن السيد مقتدى الصدر هو راعي هذا التحالف. وبعيداً عن رأينا الشخصي بتحالف سائرون للإصلاح، وبمدى نجاحه أو فشله بتحقيق الهدف البرامجي الوطني المنشود، لكن يجب علينا أن نثبت هذه الحقيقة قبل الشروع بكتابة هذا النص.

من هو جاسم الحلفي ؟

 هو الشيوعي الصعب والسهل ايضاً، وهو المتظاهر العنيد، والرجل الهادئ في مظهره الخارجي وسحنته التي تشي بطيبة أهل الجنوب، وهو سليل سنوات طوال من النضال مذ كان طالباً صغيراً  في إعدادية (بور سعيد) بمدينة الثورة، مروراً بجبال كردستان، حيث التحق بقادة الحزب الشيوعي العراقي وانصارهم فتاً غضاً، بالكاد تتفجر في  محياه، ملامح البلوغ، واذ يبدأ هذا الفتى المسكون بحلم الثورة الرومانسي، الممتلئ حد اليقين، بحقيقة أن العراق لابد أن "يكون وطنًا حراً، وشعباً سعيداً"، والباحث التائق عن التحرر من ربقة الدكتاتورية التي أبتلعت تفاصيل الحياة الطبيعية، وأحالت الوطن الى سجن كبير، حيث الكل فيه صار يحرص على أن يضع كلتا يديه على فمه، حتى لا يحتز لسانه، رأسه، فكم قتيل في هذا الوطن، جراء فلتات اللسان، في وقت تقودك "النكتة" الى المقصلة اذا مست "شارب" الدكتاتور الكث الفاحم السواد.

جاسم الحلفي وبرج القوس

جاسم الحلفي المولود في مطلع ستينات القرن الماضي، هو من مواليد برج القوس، حيث يمتاز كما هم مواليد هذا البرج، بالبساطة والبرءاة، والصراحة وروح المغامرة، وتحمل المسؤولية، والطموح العالي، ولعل من عرف شخص الحلفي سيجد انطباقاً لهذه الصفات عليه، فهذا الرجل الذي جرب الحياة السياسية مبكراً في صفوف حزب عريق، ثم يلتحق في بواكير شبابه الأولى بتجربة عجز الأشداء من الرجال عن خوضها، حين مضى وهو لم يبلغ بعد الثامنة عشر من العمر مقاتلاً في صفوف حركة الانصار التي شكلها الحزب الشيوعي العراقي، عقب الحملة الغادرة التي نفذها البعث المجرم ضد الشيوعيين العراقيين، رامياً الى تدمير هذا التيار الوطني العريق، من هناك، حيث سفوح جبل قنديل الشاهق، سيكتب هذا الفتى القادم من قطاعات الفقر والعوز والأسى والحرمان في مدينة الثورة، أولى افكاره التحررية، مفرقاً بوعي بين إسقاط النظام كنظام، وبين أنهاء الديكتاتورية، ومفرقاً كذلك بين الجيش العراقي كجيش وطني يحرس الوطن، وبين آلة دموية تحرس النظام الفاشي، وسيبدأ (أبو أحلام) من هناك رحلة (الحلم النضالي) الطويلة الشاقة المليئة بقصص الفداء والبطولة، والمزدحمة بنكبات الزمن (وخيانات الحلفاء) أيضاً، إذ سيتحول هذا الرجل الصريح، والطموح والمغامر بشكل سريع "الى حد ما " الى قيادي عسكري يتحرك في الميدان الثوري بشجاعة سيتحدث عنها الأعداء قبل الأصدقاء، ومن هناك سينجح مع رفاقه في الحزب من الانصار والنصيرات في تنفيذ عملية نوعية مهمة، يحتل فيها الأنصار جامعة صلاح الدين في اربيل، ويقيمون من هناك محاضراتهم عن خطر الدكتاتورية القائمة في بغداد، فينجح هذا الاختراق الجريء حينها في هز صورة النظام الحديدي الذي لا يقهر، وسيمنح المعارضين لصدام قوة أضافية في اتخاذ خطوات تصعيدية أقسى بحق الدكتاتور واعوانه. لكن حظه، أو لنقل سوء حظه كان له بالمرصاد، حين وقعت امام ناظريه مجزرة بشتاشان الرهيبة التي نفذها غدراً مقاتلو الاتحاد الوطني الكردستاني ضد الحزب الشيوعي العراقي وانصاره وقياداته اثناء احتفالاتهم في عيد العمال من العام 1983، في نكسة تعرضت لها القوى الوطنية، وسيكون الفتى الحلفي في طليعة القيادات العسكرية الشابة التي تصدت لهذه النكبة، وكاد أن يبتلعه شبح الموت الذي غيب الرفاق غدراً كما قلنا وقال كل من علم بهذه الواقعة الخطيرة، حيث كتب وسيكتب صفحات من النقد عن غدر الحليف في أخطر مرحلة، وعن ضعف مواقف القيادة الشيوعية انذاك. وسيكون الحلفي بعدها  قريباً من حلقات القرار الشيوعي العراقي وعارفاً بحسه الطبقي، بستراتيجيات عزيز محمد، وقادراً على فهم وعي عامر عبد الله، منتقداً طيبة كريم أحمد التي زادت عن حدها، لكنه لا يحيد قطعاً عن هدفه الأساس الذي نذر نفسه من إجله، ألا وهو اسقاط الدكتاتورية في بغداد، واحلال نظام مدني ديمقراطي تعددي. إن جاسم الحلفي - رغم شيوعيته الغائرة في تلافيف وعيه وعقله، ورغم ثوريته المعروفة- لا يؤمن بالقفز على منطق الجغرافيا والتأريخ، ولا يؤمن بفرض الشيوعية على الناس بالإكراه قدر  إيمانه بضرورة أن يتاح للحراك الاجتماعي والطبقي أن يفرز  ويقرر ما تريده الجماهير. هذا الرجل سيكون شاهداً ايضاً على نهاية حركة الانصار الباسلة بما لها وما عليها، وسيدون ما انتجته هذه الحركة التي مثلت طليعة القوى المسلحة المعارضة لسطوة وسيطرة البعث. في المنقلب الأخر، سيواصل الرجل مسيرته السياسية عبر مشاركاته المتعددة في المحافل الحزبية والاجتماعية، ليصل الى عضوية اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي العراقي منذ عام 1997، وليمارس دوره القيادي في قوى المعارضة الوطنية بكل نشاط وهمة، حتى عام 2003 حيث اللحظة الفارقة في تاريخ البلاد، ليعود الى الوطن بعد غربة طويلة في منافي وشتات، لكنها عودة من يحمل مشروعاً لانقاذ بلاد أكلت الحروب خيرة ابنائها، ودمرت الكوارث امكانات نهوضها المرتجاة.

وداعاً للكلاشنكوف !

لم يترك الحلفي الميدان بعد طول صراع ونضال ورحلة شاقة، بل سيبدأ منذ ذلك الحين مشروعه على الأرض المنبسطة هذه المرة، في بغداد، ومن تحت ساحة نصب الحرية، معلم المدينة البارز، وسيقود هذه المرة النضال، لكن دون "كلاشينكوف" بل سيتصدى بالفكرة والمناظرة والمقالة والحديث الصحفي، ليس لقوى الأرهاب فحسب بل وأيضاً للفساد وبقايا البعث التي تحالفت من طرف خفي لاجهاض التجربة من الداخل وتقويضها عبر ممارسات الأرهاب العشوائي مرةً، والفساد وتخريب ونخر مؤسسات الدولة مرةً أخرى، وسيكون للحلفي هذه المرة حلقة (انصار) أخرى، وسيعرف كيف ينظم صفوفها، معارضةً سلمية من طليعة المثقفين والكتاب والشباب الجامعي والصحفيين والشعراء وسيكون هولاء نواة الاحتجاج السياسي السلمي، وطليعة جماعات الضغط السياسي المنادية بتفكيك حلف " التخريب"، ومحاربة دعوات اعادة العراق الى المربع الأول.

وسينجح الرجل في تجاوز صعاب الواقع، وانقلاب الحلفاء الواحد تلو الأخر، ويبدأ بالتجريب في ساحة قابلة للتجريب، لكنه تجريب عميق، وحراك حقيقي، وواقعي ايضاً، وسينجح لاحقاً هو ومن معه في فرز طرف أخر في معادلة "عراق الطوائف والقوميات"، إذ  سيولد من رحم الحاجة الجماهيرية، تيار مدني ديمقراطي تقدمي، سيكون له حضور  سياسي بدءاً من عام 2014 على الأقل، وسيواصل الرجل ضمن نشاط مكثف لجموع خيرة، فرض الحالة المدنية كأمر واقع على ما كانت القوى " الدينية والقومية" تفرضه على انه واقع لا يتزحزح، وأن  لاصوت في العراق يعلو فوق أصوات الطوائف والقوميات، وسينجح رفاق وزملاء الحلفي واحتجاجاتهم بانتزاع اعتراف صعب بوجود الصوت الثالث، الصوت المدني الذي يرفع خطاب الوطنية فوق الخطابات الفرعية، ويريد للهوية الجامعة ان ترتق وتصلح ما خربته الهويات الفرعية المتفجرة، وحين نجح الحلفي بمهمته، كان يمارس تجريبه مرةً أخرى، بوعي وحنكةً أشد في تفكيك الكتل الطائفية والدينية، واختراق جدران العزل القومي والطائفي العالية.

الحلفي ..ملامح عراقية صرفة!

جاسم الحلفي، هذا الذي أنصهرت في ملامحه، تكوينات العراق، وانعكست جغرافيته وتاريخه في وجدانه الغائر عميقاً، ولد نضالياً وفروسياً برأينا قبل اربعة عقود، فوق رؤوس الجبال الشماء، وهو يناضل مع شيوعيين شبان مثله، رفضوا ان يعيشوا في الهوان ويهادنوا الطاغية، فكانت تلك القمم ملاذاً لهم، ومنطلقاً نحو تنفيذ عمليات مسلحة ضد الدكتاتور، وآلته العسكرية القامعة. في تلك السفوح، ومن تلك التضاريس الصعبة، كتب هذا " الفتى" الشيوعي، قصة عراقية فريدة في تفاصيلها، معداً نفسه لملاقاة قدره، وهو الذي آمن أن القدر العظيم لا يحتاج الا لثبات وبطولة، والا فأن الأقدار قادمة للجميع لا محالة، لكن ثمة من يصنع قدره لوحده. ومع ذلك الإنغلاق الرهيب، واليأس المطبق على الصدور، ولد هذا الشيوعي الغاضب الثائر الرافض للهوان، وكما يقول شاعر العرب الأكبر  الجواهري

: سينهضُ من صَميم اليأس جيلُ

مريدُ البأسِ جبارُ عنيدُ

لقد حفر جاسم الحلفي أبجديات نضاله هناك على حجر جبال كردستان الصلد، قصةً من شموخ وإباء وتحد عنيد، مواصلاً سنوات عمره اللاحقة، وهو يقود حراكاً غير منقطع في مواجهة الطغيان، معيدًا مع رفاقه قراءة تاريخ هذه البلاد، ومستوعباً لحقائق الطبيعة، عارفاً بمعنى الواقع اكثر من أن يكون مجرد شاب ثوري، تأخذه نشوة الاحلام بعيداً عن ملامسة أرض المواجهة، التي قد تكون ساخنة، لاهبة، حارقة. فالسنوات التالية بعد تجربة الأنصار، ستضيف (لأبي أحلام) كما يحلو لرفاقه مناداته، تجربة وخبرة أخرى، وسيكون هذا الرجل المناضل، سياسياً، ومثقفاً من طراز مميز، محاوراً ذكياً، ومفاوضاً يشار له بالبنان، وفوق هذا كله، فهو عراقي صرف، لا تأخذه الأهواء يميناً أو شمالاً في وقت أخذت العواصف غيره الكثير، فكانوا كعصف مأكول! لقد أنهى الحلفي تلك السنوات الطوال في نضال مستمر، وما أن سقط البعث ودولته القاتلة، حتى عاد الرجل، ناشداً هذه المرة الوصول الى دولة الانسان، دولة المواطنة، دولة التساوي، والأهم دولة الاستقلال الناجز، حيث العراق، حر وسيد، ومرفه، وتلك الأماني، ليست شعارات يسارية يكتبها مناضلون على جدارن مجهولة في بطن ليل بهيم، بل هو شعار وبرنامج عمل، حمله الحلفي مع رفاقه سائراً الخطوة تلو الخطوة في سبيل تحقيقه، لينصهر في بوتقة النضال السياسي السلمي هذه المرة، مشتهياً أن يصل للحظة الحلم الرومانسي الأول : حرية وطن طال اسره، وسعادة شعب امتدت بلاءات الزمن ومحنه عليه.

الحلفي .. في مواجهة سدنة الطوائف!

مع موجة الطائفية والإنقسام المجتمعي العميق، وتفجر الهويات الفرعية، واضطرام نيران الفتنة الممولة من خارج الأسوار، كان حديث الوحدة العراقية، والقرار الموحد، والتقارب الطائفي والقومي، مجرد احلام يسخر منها الواقع، فبينما الجميع منقسم حد اللعنة، في الاحتراب، وسدنة الطوائف منداحون في غبار التأريخ، ينقبون عما يدعم ويقوي لهيب المعركة، كان الحلفي ورفاق حزبه، ينظرون الى ما هو أبعد من الجحيم، فثمة حياة أخرى خارج ذلك الجحيم، كما يقال. لقد كانت نداءات العقل والرشد السياسي، وخطابات ومقالات الحلفي، وما يسطره المثقفون والقادة الوطنيون في جريدة طريق الشعب، والصحف والمواقع الوطنية والتقدمية الاخرى، جزءاً من الحل، وللحق فقد شخص الرجل العلة، وزاد التشخيص عملًا على الأرض، فالمثقف العضوي كما يقول غرامشي، لا يكتفي بالتوصيف والكشف، بل يحرث الأرض بمعول المعرفة، ويشق دياجير الجهل، بقوة الدليل والحجة، وهكذا نجح العراق بهمة هولاء في أن ينجوا من معركة التواريخ المفتعلة، وأن يأد النار التي كادت ان تحرق الشرق الأوسط برمته، وانتهى الأمر الى نصر للحلم، فتحقق ما كان يسميه البعض خيالاً، مع أن افضل ما منح هذا الأنسان، هو القدرة على التخيل، فكيف ان وظف هذا التخيل ايجاباً، ونظرة موضوعية.

تفكيك الكتل الصماء !

في سنوات ما بعد المحنة، بدا الرجل مواظباً على السير عكس التيار، أنه يريد ان يهدم بعناده الشيوعي كتل صماء، ويريد بصبره السومري ان يعيد بناء تحالفات تسري في عروقها دماء الهم الوطني، لا دماء الانتماءات الضيقة، قومياً وطائفياً، حتى بدا الحلم ايضاً كالوهم، فمن يصدق ان ينقسم الشيعة (السياسيون طبعاً)، ويفكوا عرى الوثاقة القائمة على توسل المظلومية التاريخية، ومن يعقل أن يتفرق السنة الذين اتحدوا حول طائفيتهم بالنار والحديد في معركة صَورت على أنها : أكون او لا اكون!، ومن يعقل ايضاً ان يفك الكورد حلف الجبل، فيكونوا في ضفتين متقابلتين، ذلك هو مشروع الحلفي وحزبه، فقد نجح الرجل في إحداث الاختراق الناجز، وكانت اولى بشائر ذلك العبور، في انتخابات 2014 التي اعلن فيها رسمياً عن ولادة تحالف عراقي مدني حر تقدمي، ديموقراطي، لكن للأسف ثمة من تسلقوا هذا المشروع، وافقدوه هيبته، واجهزوا على حلمه، لاسيما وأن قانوناً انتخابياً سيئاً حرم الحلفي من ان يكون في المجلس التشريعي النيابي العراقي بعد اقتسام غريب، رغم أصواته الكثيرة والكبيرة، وقد كان قبل هذا جهداً واضحاً من فبل الحلفي وانصاره، في التظاهر والاحتجاج السلمي الذي يراد له أن يتحول لمنهج عمل متكامل في أجواء ديمقراطية حقيقية. وقد كان النجاح في هذا المشروع ايضاً جزءاً لا ينكر من نضالات الرجل.

سائرون .. لوأد الفتنة الكبرى!

ومع اشتداد الحرب على العراق، وعودة المشروع الخارجي الى الأسوار، عبر "داعش" وما فعلت، كادت البلاد ان تنزلق مرةً أخرى الى ذات الأتون، لولا ايضاً الوعي السياسي، والنضج الذي وصلت له الناس، وتبلور رؤية حقيقية، بعدمية الحرب والاشتباك الطائفي مرةً اخرى، ومن هنا كانت الحاجة الى مشروع سياسي جديد ينقذ الموقف المتفجر، هماً من هموم الحلفي ايضاً، ولذا فأن انتخابات 2018 ستشهد الاختراق النوعي الثاني، حيث ان تحالفاً ستراتيجياً يولد بين أكثر القوى الشيعية الموصفة بالراديكالية ( التيار الصدري)، مع زعيم قوى اليسار العراقي ( الحزب الشيوعي العراقي) وقوى وعناصر ديمقراطية وتقدمية أخرى. هذا المشروع الذي صدم الجميع، ولاقى ويلاقي الحلفي جراءه الكثير من النقد الموضوعي مرة، وغير المنصف والظالم مرات كثيرة، إذ يراه البعض منقذاً ومنفذاً للعراق، بعد ان كادت الاصطفافات القديمة ان تطرق ابواب العملية السياسية مجدداً، وان نعود لذات المربع الذي غادرناه في 2014 تقريباً، فيما يراه البعض فرصة لانعاش القوى الاسلامية المتطرفة ايضاً، ومدها بأسباب جديدة للبقاء، بعد ان لفظها الشارع العراقي، وكشف زيف مشروعها. طبعاً، للحلفي مسيرة نضال لا تحتويها هذه السطور، لكننا متأكدون تماماً ان الرجل سيظل مثار جدل سياسي مع كل خطواته اللاحقة، كيف لا وهو الذي يريد للجدل ان يتطور الى سجالات فكرية واجتماعية تؤدي غرضها في بيان مسارات حقيقية للتغيير السلمي في البلاد. ختاماً سننقل بأمانة ما كتبه الباحث في علم الاجتماع العراقي الدكتور فارس كمال نظمي في مقالة له عن الحلفي لنعرف عن أي رجل تحدثنا فيما مضى:  " ما أنجزه جاسم الحلفي في ساحات الاحتجاج بوصفه فاعلاً وطنياً وناشطاً يسارياً، صار يُدرس في أكاديميات عالمية مرموقة على أنه تطوير لنموذج جديد من حركات اجتماعية تندمج فيها النخب المثقفة اليسارية  بالجماهير المحرومة الدينية، في مسعى واعٍ بذاته لنقل البلاد إلى قطبية وطنياتية جديدة مضادة لقطبية الكومبرادور الزبائني المتوحش". وكما يشير الدكتور فارس الى دور هذا الشيوعي المؤثر، ومن خلال ما تقدم من سيرته الواسعة والمزدحمة بالمواقف وألمآثر ، فإن الرجل لايمكن أن ينجو من سهام النقد الحادة ولربما الغضب ايضاً، وبعض هذه السهام قد يأتي من قوس الإختلاف، وبعضها قد يأتي من قوس سوء الفهم، لكن المؤكد أن هناك سهاماً تنطلق من قوس الغيرة والحسد، وهو أمر ليس مستبعداً في بيئة مثل البيئة السياسية العراقية الحالية، حيث لا مكان فيها للفروسية ولا بقاء للمنافس الأصلح لكن الثابت أن هذا الرجل الثوري لا يزال ماسكاً بيده السمراء مشروعه السياسي الوطني، الذي هو بالضرورة مشروع حزبه وجماهيره المدنية التي تؤيده وتثق به، وأبسط تعريف لمشروعه هو:

 ان الرجل "يريد الحياة المتساوية للجميع، والعيش بكرامة وأمان للجميع".

علق هنا