المنظومة الإجتماعية الدينية الشيعية العجيبة !!

بغداد- العراق اليوم:

علي المؤمن

في المطعم الأذربيجاني في موسكو ( الذي يقدم الطعام الحلال)، تعرفت بالصدفة الى عائلة روسية، أصولها من جمهورية أذربيجان، وكان واضحاً من ملابس نسائهم وسلوكهم أنهم غير ملتزمين دينياً.     كما اتضح لي فيما بعد، أنهم من كبار الأثرياء ورجال الأعمال.     كان كبارهم يتكلمون اللغة الآذرية، أما الشباب والصغار فلايعرفون غير الروسية. كل شيء فيهم يلفت النظر بالنسبة لغريب مثلي: سلوكهم.. ضحكاتهم العالية.. لغاتهم المتنوعة.. بذخهم  طاولتي كانت ملاصقة لطاولتهم الكبيرة العامرة.   حین كنت أتحدث بالعربية مع مترجمي، سألني رجل منهم بالروسية وهو يبتسم ابتسامة عريضة:

- هل أنت عربي؟

- نعم عربي من العراق

  فجأة تلاشت ابتسامته، فعاجلني بالسؤال:

- من أين من العراق؟

- من النجف الأشرف.. هل تعرفها؟.  هنا تغير لونه. بينما التفت نحوي رجل ثمانيني وسيم وأنيق جداً، كان يتصدّر طاولتهم، وهو كبيرهم، وأعاد علي السؤال وكأنّه يبكي:

- أنت من النجف؟ من مدينة المولى علي؟

-  نعم من مدينة المولى.  حينها أخذ يتحدث مع عائلته باللغة الاذربيجانية بشغف وروحانية، بلحن يشبه الندب، وكأنّه يعبِّر عن ولائه لأمير المؤمنين. وكانوا يتفاعلون مع كلامه ويتبادلون الحديث، بمن فيهم النساء والشباب الغارقين في العصرية !!.

لم أستغرب من هذه المفارقة أو الإزدواجية بين السلوك والعواطف، لأنني أعيشها يومياً في لبنان. المفارقة الأخرى أن الرجل الذي كان يجلس الى جانبي تقريباّ، أخذ يقبل كتفي، وانحنى على يدي يريد تقبيلها، بمجرد أن عرف أني سيد، وذلك حين قال لهم مترجمي:

    - إنه سيد من أحفاد الإمام علي بن أبي طالب  وبدأت المفارقات تنهمر كالغيث في شدته..   أخذ أحدهم يتحدث عن عدم سماح مسؤولي المسجد المركزي الحكومي في موسكو للشيعة بممارسة عباداتهم وشعائرهم فيه، واحتكار السنة للمسجد، بالرغم من أن الرئيس بوتين أكد في افتتاح المسجد بأنه للجميع وليس لطائفة دون أخرى.   وتحدث آخر عن بذل السعوديين ملايين الدولارات لنشر المذهب الوهابي في روسيا.

   قلت لهم بقصد استفزازهم:

   - وما علاقتكم أنتم بكل ذلك؟ هل أنتم ترتادون المساجد مثلاّ وتمارسون العبادات؟  فهموا رسالتي على الفور، فبادر أحدهم الى القول وقد بدى عليه الإنفعال:

- يا أخي نحن نحتفل بأعياد الأضحى ورمضان والغدير، ونقيم مجالس الإمام الحسين ونبكي ونلطم، ونوزع الطعام لآلاف الناس في يوم عاشوراء. نحن شيعة يا أخي، ويهمنا أن نحس أن دولتنا تمنحنا كل حقوقنا الدينية. جوابه دفعني للتأمل، والإنتقال الى سؤال يدخل في صلب اهتماماتي البحثية:

- إذن.. هل تحسون بالإنتماء أكثر الى جمهورية أذربيجان أم الى روسيا؟ هنا كانت المفارقة المذهلة، حين أجاب كبيرهم:

- بل نحن ننتمي إلى أئمتنا في العراق وإيران والحجاز.

    وقال آخر:

- أنا وأبي هذا وأختي الكبيرة هذه ( كانت تصغي بجدية الى حديث أخيها وقد اغرورقت عيناها بالدموع) ذهبنا مرتين الى العراق للمشاركة في أربعينية الإمام الحسين، ومشينا كل الطريق بين النجف وكربلاء. وكنا هناك نتنفس هواءنا الحقيقي، ونختلط بأهلنا وقومنا الحاضرين هناك بالملايين من كل العالم.

  ثم أشارت إحدى نسائهم الى أحد الصبيان وهي تقول بفخر:

- هذا إبني داوود عمره الآن تسع سنوات، وهو يلطم سنوياً على الحسين منذ كان عمره ثلاث سنوات.  هذه المرة كدت أنا أنفجر بالبكاء، و قلت في نفسي:

   - كم هو عميق هذا الحجم النوعي الهائل من الإنتماء العاطفي الوجداني الذي يختزنه الشيعي في قلبه وعقله، والذي لايزال يحافظ على وحدة المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية العالمية منذ مئات السنين.

   هذه العائلة الروسية الشيعية، برغم بعدها عن مظاهر الإلتزام الديني، وربما العقدي، إلا أنها تعي بعمق واقعها المذهبي ومندكة به.

موسكو - 7/29/ 2019

علق هنا