صمتُكَ كثيرٌ وظهيرتي لزجة : شطحات شعريّة تخرق المسكوت عنه

بغداد- العراق اليوم:

عدنان حسين أحمد

صدرت عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في بيروت المجموعة الشعرية الأولى التي تحمل عنوان «صمتُكَ كثيرٌ وظهيرتي لزجة» للشاعرة العراقية فَيْء ناصر المقيمة في لندن حاليًا. تنقسم المجموعة إلى خمسة أبواب تضمُّ في مجملها 57 قصيدة يهيمن عليها الهاجس الثقافي لجهة تعلّق الشاعرة بأسماء شعرية عراقية وعربية وعالمية أمثال سعدي يوسف، فوزي كريم، محمود درويش، بيسوا، ريلكة، لوركا، جوزيف أتيلا، ليونارد كوهين، مايكوفسكي، رامبو، إدغار ألن بو، كما ترد في بعض القصائد أسماء أدبية وفنية مثل الروائي الأمريكي هنري ميلر، والرسّام النمساوي إيغون شيله، إضافة لصديقيّ طفولتها رياض، وبختيار، ولا يتخلّف الأب العابس عن الحضور، والأمّ «المُصابة بعوق الفضيلة الأبدي». تٌسهب فَيْء الكتابة بضمير المتكلّم، ونادرًا ما تستعيض عنه بضميريّ الغائب والمُخاطب.

وعلى الرغم من طغيان الأنا، وهيمنة الموضوعات الذاتية إلاّ أن القارئ يُحيط بعالمها الموضوعي ويلمّ بأطرافه المتناثرة التي تأخذ شكل أمكنة محلية وعالمية عديدة تكشف من طرف غير خفي سعة المشارب الثقافية التي تنهل منها هذه الشاعرة المُرهفة التي لا تجد حرجًا في البوح بمشاعرها وأحاسيسها الداخلية، لدرجة أنها تسمّي الأشياء بأسمائها أو تُحيل المتلّقي إلى المعاني المجازية التي يمكن التقاطها بسهولة ويسر.

يُوحي عنوان المجموعة بثنائية العاشق والمعشوقة فهو صامت وبالكاد نلمس ردود أفعاله، وهي وحيدة، ونافرة من المجتمع، ومتحاملة عليه، فلا غرابة أن تستهل عالَمها الشعري بـ«سيرة ذاتية للخيبات» وكأنّ حياتها سلسلة من الإخفاقات والخسارات المتلاحقة، التي لا تعوّضها إلاّ قصائد لوركا، وأنداد بيسوا و«متاهة أسمائه»، فثمة بارقة أمل تتلألأ في السماء الدكناء للشاعرة فَيْء ناصر، لأنها وجدت ذاتها في الثقافة الكونية، وإن كان بعض رموزها عراقيين أو عربًا لكنهم يتناهلون مثل الأواني المستطرقة التي تغذّي بعضها بعضًا.

تبني فَيْء معظم قصائدها على حدثٍ معينٍ أو ذكرى تخطر في البال، وربما تكون قصيدة «عراق يمشي مع امرأة» هي أعمق قصائد المجموعة قاطبة، وقد كتبتها حين رأت الشاعر سعدي يُوسف مصادفة وهو يمشي مع امرأة «باهتة كلسانٍ لم يذقْ البرحي أبدًا». فتشتبك معه بأسئلة متتالية: «بأيةِ لغةٍ تضاجعُها؟/ تُضاحكُها،/ تُشاتمُها؟/ أتقرأُ شِعركَ؟/ هل تفهمُ نزقكَ؟». لا تتحدث الشاعرة في هذه القصيدة عن فرد، بل عن وطنٍ بكامله وقد سمعناها تسألهُ بصوت خفيض:»أين تمضي أيها الوطنُ الذي يُعلّقُ الوطنَ في عُنُقِهِ؟» فالمعروف عن سعدي أنه يرتدي قلادة تتدلى منها خريطة العراق، ثم تختُم هذا النص المركّب بسؤالين عن الغُربة والإياب حيث تقول: «متى ستتوب/عن غربتِك يا عراقُ/ وهل ستؤوب؟». وفي السياق ذاته تكتب عن شعراء آخرين تمحضهم حُبًا من نوع خاص مثل الشاعر الراحل فوزي كريم الذي خصّته بـ«قصيدة في إسطبل» وأهدتْها إليه، ولعل أبلغ ما فيها متابعتها المتأنية للحظات التي تتوهج فيها مخيّلته الشعرية حين تمسّهُ يد العِرفان، وتُوقظ فيه السيّاب والبريكان وكل الغاوين من قبلِه.

    لا تختلف قصيدة الومضة في القسم الثاني من المجموعة عن القصائد النثرية الأخرى ذات الإيقاع النابض الذي يُشعِرك بحيوية القصائد التي تكتبها فَيْء ناصر.

لا تختلف قصيدة الومضة في القسم الثاني من المجموعة عن القصائد النثرية الأخرى ذات الإيقاع النابض الذي يُشعِرك بحيوية القصائد التي تكتبها فَيْء ناصر، لكنّ هذا التقشّف ينسجم مع الموضوعات الشعرية للنصوص المكثّفة نذكر منها: «غيابُكَ/يُوقظُ عثراتي/يُوقظها كلها/حتى تلك التي تفاديتها». أو «ذاكرتي/ بثرٌ سوداء/لا تملك إلاّ مَنْ فَقدَتْهُ». ثمة قصائد تنطوي على شطحات جريئة تخرق المسكوت عنه، وتنتهك اللامُفكر فيه من بينها: «فضَتكُ تُوشك على إغراقي../ أين يداي؟» أو «ما زلت أمضغُ صوتَكَ بأناملِ المواء»، أو «كسفّاحين سينثّان القُشعْريرة/في أضلعي ودلتاي».

ترصد الشاعرة في القسم الثالث من مجموعتها الشعرية تواقيع الحضور الشهري على مدى خمس سنوات لأنها كانت طالبة لجوء رُفض طلبها وكانت عُرضة للترحيل في أي لحظة فوقّعت عددًا من قصائدها المُفجعة وهي تتعثر بأذيال الحافلات على أرصفة هانزلو التي تُفضي إلى مراكز اللاجئين.

ثمة مفارقة كبيرة في القسم الرابع بين عُمْرِ الشاعرة ووطنها الأول، فكلاهما لا يفتح أبوابه إلاّ «للسرّاق والموتى» لأنه جاذب للصوص، وطارد لأبنائه الحقيقيين. لنقتبس من قصيدة «عمى» الأبيات الثلاثة الأخيرة التي تقول فيها: «والعمرُ مثل البلد/بابٌ مشْرعٌ/للسُرّاق والموتى». قد تفْرغ العاشقة من كل شيء، وتصبح خاوية إلاّ من معشوقِها، فكلاهما أدمنَ المنافي، واخترعَ الوداع. يختصر بعض القصائد القصار تجربة حياة بكاملها حين تستقطر الشاعرةُ الكلامَ، لكنها لا تبخل علينا بالصور الشعرية التي تفي الحكاية حقّها كما هو الحال في قصيدة «نهاية» التي تقول فيها:»رَهَنتُ انتظاري/لمصطبةِ الأسئلة/ومضيتُ إلى أجنحة اليأسِ/أستريح».

يتمحور القسم الخامس من المجموعة على «الجنون والأماكن الخاطئة»، وبغض النظر عن موضوعات النصوص الشعرية الثمانية التي ضحّت بالاقتصاد اللغوي لمصلحة الشكل السردي، الذي نعهدهُ في النثر ولا نألفه في الشعر إلاّ ما ندر من باب التنويع، والتجريب، والخروج على القاعدة البصرية التي تأخذ في الأعمّ الأغلب أسطرًا شعرية متتالية، قد لا تنتظم في الطول أو في القِصر، وقد تتخللها نقاط، أو علامات استفهام، أو تعجّب، أو مساحات بيضاء نستشفُ منها ما نشاء. هذا الشكل النثري الذي يغطي الصفحة بكاملها ليس جديدًا، وقد استعملهُ العديد من الشعراء لكن التأكيد عليه يستحق الاهتمام والدراسة، لأن موضوعاته الكبيرة لا تقبل الاختصار، وتجد نفسها في البوح السردي الذي يحتاج إلى مساحة شاسعة ومفتوحة. تتكرر ثنائية الحضور والغياب في هذه النصوص المؤرّقة التي يتفاعل معها القارئ، لكنها تتجلى أكثر في قصيدة «حضورُكَ جمرٌ وعدوى» التي تختمها الشاعرة فَيْء ناصر بضربة فنية شديدة الذكاء حين تقول:»اِخفض عينَ روحِك عني كيما أهدأُ قليلاً، فحضورُكَ جمرٌ وعدوى، وغيابُكَ هو الإقامة».

لا يستطيع ذوّاقةُ الشعر وناقدهُ إلاّ أن يعترف بالمُخيّلة المُجنّحة للشاعرة فَيْء ناصر، التي قرأت الكثير من الشعر العربي الحديث، إضافة إلى الشعر العالمي المُترجَم الذي فتح لها آفاقًا جديدة لم نألفها من قَبل. ورغم أنّ هذه المجموعة لا تحتفي إلاّ بقصيدة واحدة عن الفنان إيغون شيله وبضع صور تشكيلية متفرقة هنا وهناك، إلاّ أنها مُدمنة على مشاهدة الأعمال الفنية وتأملها بعين الشاعرة المتذوّقة التي تكتشف المنطقة الغامضة التي يلتقي فيها الشعر بالرسم، من دون أن يتخليا عن عظمة الإيقاع الموسيقي وسحره الذي يخلب الألباب.

لا يمكن لأي شاعرة متمكنة من فنِّها أن تكتب بهذا العُمق ما لم تتسلّح بخبرة داخلية، وتجربة حياتية متراكمة، ولا أظن أنّ المثقفين العراقيين المُقتَلعين من جذورهم يفتقرون إلى الخبرة والتجربة والهمّ الوجودي، ومعظم تجاربهم معجونة بالألم والوجع والمعاناة المريرة، وليس أدلُّ على ذلك إلاّ سنوات الانتظار الخمس التي أمضتْها فَيْء ناصر في لندن وهي مُلزمة بالذهاب والإياب شهريًا إلى مراكز التوقيع التي تسحق الأعصاب.

لابدّ من الإشارة إلى أنّ فَيْء ناصر تُفرِّق بين الصورة البورنوغرافية المبتذلة التي لم تقع فيها، والصورة الإيروسية الراقية التي تتعالى على الشهقات المؤقتة، والرَغَبات الآنية، لهذا تفادتْ الأولى تمامًا وأمعنت في استعمال الثانية، لأنها تبثُّ في القصائد نسغًا صاعدًا يمكننا أن نتلّمسه مثل الريليف البارز على سطح منحوتة مستوية.

علق هنا