رجل ميشغان في العراق

بغداد- العراق اليوم:

قد تكون الرحلة من ميشغان إلى بغداد بشهادة عليا في هندسة الميكانيك أطول رحلة لرجل مثل سامي الأعرجي. إنها مسافة العبور بين عهدين صاخبين لرجل من بقايا الطبقة الوسطى في العراق، أو إنّه من آخر أبنائها. وفي بلد مثل العراق تتطلب الارتحال بين زمنين إتقان المشي في حقل ألغام.

سامي رؤوف تقي مهدي الاعرجي من مواليد مدينة الكاظمية في بغداد العام 1945، من عائلة متوسطة الدخل أو أقل نسبياً، مستواه العملي منحه فرصة القبول في بعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الهندسة، فحصل على البكالوريوس في الهندسة الميكانيكية، ثم اكمل الماجستير، ثم الدكتوراه العام 1973.

في آيار (مايو) ٢٠١٢، عاد الأعرجي إلى ميشغان بينما بغداد تكافح لتحصل على أقل فرص النمو والحياة. في تلك اللحظة كان سامي في طيارته يراقب العاصمة الموجوعة تتصاغر إلى خريطة لأحلام لم تتحقق بعد. وصل “العقل” المكلف بـ”الاستثمار” إلى ميشغان في زيارة تكريم قصيرة. دخل جامعته القديمة حيث زملاؤه الأميركيون يمنحونه جائزة “الخريج المتميز”، وفي حينها كان حاكم ميشغان يكشف له كيف أن الجامعة تراقب طلابها وهم في بقعة ملتهبة من العالم.

عاد “سامي” إلى بغداد، وكأنها الرحلة الطويلة ذاتها، حيث ينتظره مهندسو السياسية الذين يضعون أمامه معادلات لا يمكن حلها، ولو بجائزة “خريج متميز” من بلاد العم “سام”.

يقول فاروق الجنابي، وهو أحد زملاء الأعرجي في جامعة MSU، في ولاية ميشغان، إنه “كان شاباً ذكياً، من أولئك العراقيين القلائل الذين واصلوا العمل حتى نيل شهادة البكالوريوس. وفي ما بعد استمر في الدراسة على نفقته الخاصة، لأن الدولة قررت إيقاف رواتبه، لينال أخيراً شهادة الدكتوراه في هندسة الميكانيك”.

في بلد مثل العراق، عانى تحولات سياسية واقتصادية عنيفة ولا يزال يصارع من أجل الاستقرار، فإن شخصاً مثل سامي الأعرجي يمكنه أن يواجه ما لم يكن يتوقعه طيلة مسيرته المهنية. إنه عراق الصفقات، والسمسرة، والعقود، والفن السياسي البارع في تغطية الفساد، والحاذق في توريته وجعله سياقاً يقود الدولة، بل يُدخله قيمةً في منظومة الحياة العامة. إنه عراق يقطع الطريق بين طالب من ميشغان، ومهندس في “هيئة استثمار” بمعادلة غير محلولة تفرض المحاصصة، وتقول لنا إنه “العراق الجديد”.

سامي، ومن دون لقبه “السيد”، كان ولا يزال قاب قوسين أو أدنى من أن يكون على حافة السقوط حين يحاصره “النظام” بأسلحته المعتادة، إذ على الرجل أن يكتب للجميع، الجميع المختلف المتحارب المتناحر من “سادة” و”عامة”، معادلةً تنفذ منها سليماً فرص النمو والاستقرار.

سامي، وبلقبه “السيد” وبسيرته المهنية في نظام ما قبل ٢٠٠٣، يواجه “شعرة” الاتهام، وكان عليه أن يمشى فوقها من دون أن يسقط، وأن يصل أخيراً من دون إصابات سياسية، إلى صورة “أبن الطبقة الوسطى” الناجي من محرقة ما بعد ٢٠٠٣.

سامي بلقبه “الأعرجي”، كان عليه قبل أن يدخل مكتبه في هيئة الاستثمار، أن يفكر بتحولات العراق بين الطوائف لا بسيرة أكاديمية ومهنية طويلة. سامي، بهذا المعنى، يمشي حافياً على جمر العصبيات العراقية، وكل “عصبية” تريد استثمار النهرين، بالجبل على الهور، بالنفط مع الأرض، لوحدها وبين حجرها، ولو كلف ذلك المكوث في خندق بسلاح الدين.

ولو ترك سامي، بلقبه السيد، ووظيفته رئيساً للاستثمار، معادلة الطوائف، وقرر مواجهة تعقيدات اقتصاد العراق، لاكتشف سريعاً أنه في مواجهة الـ”لا نظام”. إنه يعرف تماماً كيف يكتشف اقتصاداً “خنثياً” فقط حين يطابق “الأصل” بصورة المعادلات الرياضية التي كان درسها لسنوات طويلة، فلا العراق مركزي في اقتصاده، ولا هو سوق مفتوح بضوابط أو بدونها.

في شباط (فبراير) ٢٠١٥، ظهر الأعرجي في ندوة صحافية بالعاصمة بغداد، كان يطلق رسائل عشر سنوات من محاولات “إنقاذ” الهوية الاقتصادية. وفي يومها كان الأعرجي “يشفر” الإصلاح السياسي من منظوره الخاص، تحديداً كان يقول إن ما ينقص الميكانو الاقتصادي في العراق هو مشروع “النافذة الواحدة”. لوهلة، بدا أن من سمع الأعرجي يتحدث عن نافذته لا يعرفها، ولولهة أيضاً، كان الأعرجي يعرف مخاطر النطق أمام نخبة من الصعب عليها “الاستماع” جيداً.

نافذة الأعرجي “الواحدة” كانت تقصي جيشاً من فرسان الروتين والبيروقراطية في العراق، بل أنها تقطع حبال السمسرة الممتدة إلى مكاتب فاسدين، وآخرين نائمين على مكاتب توقع وتصدر وتورد كتباً لا طائل منها. نافذة الأعرجي، ببساطة، تنهي تراث المركزية الفظة في مواجهة الأموال التي تحرك الحياة في العراق.

إنها، ببساطة، تعني إنهاء زمن “الحصول على ترخيص صناعي - على سبيل المثال - لتطوير الأرض في وقت طويل نبذله في إجراءات لا تنتهي وتجعل المستثمرين يترددون على كثير من الدوائر الحكومية ولفترات طويلة، في عملية عملية تعيق النشاطات التجارية الراغبة في الاستفادة من فرص العراق المتاحة”.

ولأن تطوير الأرض يجب أن يسبقه الحصول على رخصة وتصريح، فقد كان هذا هو  السبب الذي جعل الأعرجي يعتقد بأنه كلما حصل المستثمر على الترخيص بصورة أسرع وأسهل، كلما كان احتمال دخوله للعمل في العراق أكبر.

برنامج النافذة الواحدة يقدم جميع الخدمات المطلوبة ومن مكان واحد فقط، مثل خدمات الحصول على الأرض الصناعية والترخيص، وكما يشير الإسم، فإن برنامج النافذة الواحدة سيوفر الوقت والجهد على جميع العملاء والمستثمرين حيث يمكن إنهاء جميع الإجراءات في مكان واحد فقط ومن خلال عملية واحدة فقط يقوم بها موظف واحد فقط.

موظف واحد فقط؟ هل كان يقصد الأعرجي، حقاً، إن الاستثمار يمر في موظف واحد فقط؟ إنه، وفق العراق الذي “لا يحلم به” رجل واحد قادم من ميشغان إلى بغداد.

يؤمن الأعرجي، أن إنشاء نظام النافذة الواحدة يمثل مشروعاً معقداً للإصلاح السياسي. لكن في الوقت نفسه يعرف أنه أداة مواتية لتيسير الاستثمار عبر الحدود. كأنه يقول للعقلية الكلاسيكية العراقية في نطاق الاقتصاد إنه “آخر الدواء الكي”، وأن عليهم التخلص من بقايا ثلاثة عقود من المركزية كانت فيه الدولة “البقرة السمينة” التي يحلبها الجميع. إن صانعي السياسات، من وجهة نظر الأعرجي، سيواجهون الكثير من التحديات والعوائق عند تحويل رؤية وأهداف النافذة الواحدة إلى واقع.

إن فكرة الأعرجي في النافذة الواحدة ترتبط بقضايا التكنولوجيا وقبل ذلك الدعم السياسي، والالتزام طويل المدى من الإدارة العليا، والمنبر المؤسسي الموثوق للتعاون بين المؤسسات العراقية، والإدارة الفاعلة لتوقعات وإنطباعات أصحاب المصلحة، وإجراءات الأعمال القابلة للتنفيذ، والنماذج الهندسية، وتبادل البيانات والأعمال، والقوانين والنظم، والمسائل المالية.

أخيراً، يعرف الأعرجي أن صانعي السياسات والمديرين بحاجة إلى إطار إستراتيجي وشامل يساعدهم على المعالجة المنتظمة لهذه التحديات والإدارة الفاعلة لمشروع النافذة الواحدة، لكنه في الوقت نفسه يعرف أن الوقت طويل لتحقيق ذلك، ويحسب له الصبر على إنعاش الأفكار.

الاقتصاد، فاقد الهواية الذي يرزح تحت سنوات من المراهقة السياسية والخراب على مستوى الإدارة، حصل على نقطة ضوء غير مألوفة في عراق ما بعد صدام حسين. لقد عرف المستثمرون في قطاع الإسكان فرصاً تتنامى بسرعة فائقة في إقليم كردستان، حيث ارتفعت البنايات الشاهقة بوحدات سكنية جديدة لائقة في مدن الجزء الكردي من العراق، لكن هذه التجربة كانت مجرد حلم صعب التحقق في الجزء الآخر.

يتذكر الأعرجي، “السيد” الكاظمي، القديم، إنه دخل في عملية إعمار العراق بعد حرب الخليج الأولى عام ١٩٩١، وتمكن مع عراقيين آخرين، من دون تصنيفهه وتصنيفهم سياسيا وفق معايير تلك الحقبة السياسية، من جعل العراقيين ينسون إن بلادهم، ولو “على قدر أهل العزم”، على وشك أن تكون “عارية” من دون بنى تحتية. كان العراق، في مفارقة عجيبة، يخضر وسط الخراب.

الأعرجي، سيد “بسماية”، وضع “حجراً” أخضرَ من بسماية بينما النار تأكل، ولا تزال، آخر “يابس” في بلاد تنوء من “رياضيات” السياسية وحروبها. مشروع مدينة بسماية، اول واكبر مشروع تنموي في تاريخ العراق، وتقع المدينة الى الجنوب الشرقي من مدينة بغداد، تبعد حوالي (10) كم عن حدودها مدينة على الطريق الدولي الرابط بين بغداد- كوت. وعلى مساحة 1.830 هكتار، يفترض منها أن تستوعب حوالي 600.000 شخص واجمالي عدد الوحدات السكنية هو 100.000 وحدة. فضلاً عن شبكة من البنى التحتية من كهرباء وماء وشوارع رئيسية، ومرافق عامة تقوم حكومة العراق بتطويرها ومنها التعليمية والدينية والترفيهية والتجارية، ومحطات معالجة المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي.

في الموقع التعريفي لمشروع بسماية، كُتِبَ فيه، “ستملأ مدينة بسماية الجديدة حياة 600.000 عراقي بالسعادة وستكون من اكثر المدن تميزا في العراق ومنطقة الشرق الاوسط واول مشروع عملاق من مشاريع برنامج الإسكان الوطني”. لكن الأعرجي، ولو قدر له أن يكتب في مفكرته الشخصية شيئاً عن المشروع، لكتب إنه وفق معايير عراق مريضٍ، المشروع المستحيل الذي وصلت إليه محطات رجل ميشغان، في العراق.

علق هنا