حسين الموزاني‮.. ‬المنفي عندما‮ ‬يقتل

بغداد- العراق اليوم:

بدا خبر وفاة حسين الموزاني‮ ‬غريباً‮ ‬وعصياً‮ ‬علي التصديق مثل بعض حكاياته‮: ‬دخل إلي الفراش في بيته،‮ ‬ونام،‮ ‬وعندما جاءت ابنته لتوقظه في الصباح،‮ ‬رفض العودة إلي هذه الدنيا‮.‬

بهذه البساطة،‮ ‬وبهذه السرعة‮! ‬كيف‮ ‬يفارقنا شخص‮ ‬يفيض نشاطاً،‮ ‬ولا‮ ‬يكف عن التخطيط لما‮ ‬يود أن‮ ‬يفعله في المستقبل القريب والبعيد‮. ‬نشعر عندئذ أن الموت‮ ‬غدّار،‮ ‬خطّاف،‮ ‬نذل لا‮ ‬يمهل ضحاياه فرصة حتي أن‮ ‬يودعوا أحباءهم‮. ‬هكذا شعرت عندما فارقنا هاني درويش فجأة بعد أن قضي في برلين فترة بعثت في نفسه آمالا كبيرة‮. ‬عاد إلي القاهرة،‮ ‬وبعد أيام جاءنا الخبر الذي رفضنا أن نصدقه‮.‬



الشعور نفسه داهمني عندما سمعت أن الموت اختطف أيضاً‮ ‬الروائي والمترجم والصحفي حسين الموزاني‮. ‬كان حسين‮  ‬رغم حزنه الدفين وسوداوية نظرته في كثير من الأحيان‮ - ‬يتدفق حيوية ومرحاً‮ ‬وحباً‮ ‬للحياة‮. ‬المتابعون لصفحته علي الفيسبوك يعرفونه كاتباً‮ ‬متميزاً،‮ ‬يقدم لهم كل‮ ‬يوم وجبة دسمة أو خفيفة،‮ ‬ومعها صور من أرشيفه‮. ‬بلذة حكاءٍ‮ ‬لا ينضب معينه كان يُشرك أصدقاءه الافتراضيين في حياته البرلينية،‮ ‬وأسفاره الأوروبية الكثيرة،‮ ‬وذكرياته المُرة عن العراق الذي لم يغادره إلا بالجسد‮. ‬ربما تحول الفيسبوك في آخر حياة الموزاني إلي ما يشبه العمود اليومي للكاتب الذي كان يرفض النشر لدي أغلب الصحف العربية التي كان يتهمها صراحةً‮ ‬بالتبعية لأهواء الممول،‮ ‬ومن ثم كان يحملها مسئولية التخلف والقمع والتطرف والحروب‮. ‬أما الصحافة الألمانية فقد توقف عن الكتابة فيها منذ سنوات‮. ‬قال لي أكثر من مرة‮: ‬عندما أكتب بشكل نقدي عن العرب وأحوالهم،‮ ‬فهم‮ ‬يرحبون بمقالاتي،‮ ‬أما عندما أنتقد ألمانيا والألمان،‮ ‬فإنهم‮ ‬يرفضون نشر ما أكتب‮." ‬الفكرة نفسها صرّح بها حسين الموزاني في حواره مع محمد حجيري علي موقع‮ "‬المدن‮": "‬الألمان قدموا لنا دعما كبيرا،‮ ‬فوفروا لنا الأمن والحماية من بطش نظام صدام،‮ ‬وأتاحوا لنا الفرصة في الدراسة والتعلم حتي أصبحت كاتباً‮ ‬ألمانياً،‮ ‬وصرت أنشر في كبريات صحفهم‮. ‬ومع ذلك فهم لا‮ ‬يريدون أن تدخل معهم في حوار متكافئ،‮ ‬أو نقاش ثقافي أو سياسي،‮ ‬خاصة فيما‮ ‬يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي‮."‬

ربما كان ذلك أحد أسباب الحزن الدفين الذي كان حسين الموزاني‮ ‬يغطيه بمرحه المعهود‮. ‬كان‮ ‬يشعر بعدم التحقق،‮ ‬بأنه لم‮ ‬ينل الاعتراف أو التقدير الكافي،‮ ‬لا من العرب ولا من الألمان‮. ‬نعم،‮ ‬كان‮ ‬يُدعي لقراءات وندوات‮ (‬وخاصة من جهات ألمانية‮)‬،‮ ‬كما حصل علي جائزة شاميسو التشجيعية للكتاب الأجانب الذين‮ ‬يكتبون بالألمانية،‮ ‬وحقق شهرةً‮ ‬كمترجم للأدب الألماني الحديث،‮ ‬وارتبط اسمه لدي معظم المثقفين العرب بترجمة رواية من أهم الروايات الألمانية في القرن العشرين،‮ ‬وهي رواية جونتر جراس الفذة‮ "‬طبل الصفيح‮" (‬التي تضع المترجم أمام تحديات لا تنتهي‮)‬،‮ ‬وكان قد بدأ العمل فيها قبل حصول جراس علي جائزة نوبل في عام‮ ‬1999‭.‬‮ ‬رغم كل هذه الإنجازات كان لديه شعور بالغُبن،‮ ‬أو بالإحباط،‮ ‬وكان عتابه أكثر علي أبناء الثقافة الألمانية لأنه كان‮ ‬يعيش بينهم‮. ‬مَن‮ ‬يقرأ تأملاته في موقع‮ "‬قنطرة‮" ‬عن علاقة الأدباء الألمان بالمثقفين العرب،‮ ‬يدرك عمق المرارة التي ترسخت داخله‮.‬

حسين الموزاني كان‮ ‬يجسد أمام عيني المثقف المنفي الذي‮ ‬يشعر بحزن أصيل مقيم أودي به إلي اكتئاب عميق رغم كل محاولات الهروب منه،‮ ‬وفي النهاية أودي بحياته ربما‮. ‬يقول حسين في حواره مع‮ "‬المدن‮":‬

‮"‬العراق منجم لا‮ ‬ينضب للأحزان والمآسي والدمار والإبادة الجماعية،‮ ‬وما زال إلي‮ ‬يومنا هذا‮." ‬زيارته للعراق بعد سقوط نظام صدام حسين لم تخفف من أحزانه،‮ ‬علي العكس،‮ ‬لقد عمقتها داخله‮: "‬تخيل أنك تنتمي إلي بلد نُفذت فيه‮ ‬67‮ ‬ألف عملية انتحارية خلال‮ ‬11‮ ‬عاماً،‮ ‬أي منذ سقوط البعث إلي الآن‮. ‬وغالباً‮ ‬ما‮ ‬ينتابني هاجس بأن عمليات القتل اليومي هذه تحدث في أعماق نفسي،‮ ‬وكأنني عراق مصغر أو‮ "‬مشخصن‮"‬،‮ ‬فأسير كما لو أن الدماء تقطر من جسدي أينما حللت‮. ‬ومع ذلك فأنا منفي حقيقي،‮ ‬علي الرغم من الشروط المخففة التي نعيش في ظلها‮. ‬والمنفي نفسه تحول إلي خامة،‮ ‬أو آلة حادة شطرتني نصفين‮. ‬فأنا لم أكن مرتاحا ومطمئنا في وطني،‮ ‬ولا في‮ ‬غربتي ومنفاي‮."‬

عندما حصل حسين الموزاني علي جائزة‮ "‬شاميسو‮" ‬في عام‮ ‬2003‮ ‬شعر بأنه‮ "‬وصل إلي الطريق الصحيح‮"‬،‮ ‬مثلما قال لي في حوار صحفي‮. ‬كان قد نشر قبلها بالألمانية روايته‮ "‬منصور أو عطر الغرب‮"‬،‮ ‬ثم نشر بعدها روايته‮ "‬اعترافات تاجر اللحوم‮"‬،‮ ‬وهي إعادة كتابة لروايته الصادرة بالعربية بالعنوان نفسه‮. ‬وفي عام‮ ‬2011‮ ‬صدر له بالألمانية كتاب بعنوان‮ "‬عالمان متوازيان‮" ‬تحدث فيه عن خبرته ككاتب في المنفي،‮ ‬وعن الطريق الطويل الذي سار عليه حتي أجاد الكتابة بلغة أجنبية‮. ‬آنذاك قال لي إنه تعلم في المنفي خبرات‮ ‬غيّرت حياته‮: "‬تعلمتُ‮ ‬أن عليّ‮ ‬أن أضيء شمعة بدلا من أن ألعن الظلام،‮ ‬وأن علي‮  ‬بدلا من الصراع ضد شيء‮  ‬أن أكافح من أجل شيء،‮ ‬من أجل العدالة،‮ ‬من أجل الجمال،‮ ‬من أجل كتابة أدب جيد‮."‬

كان ذلك طموح حسين الموزاني،‮ ‬وظل‮ ‬يكافح حتي لا تنتصر عليه الإحباطات والانكسارات الكثيرة،‮ ‬السياسية والشخصية،‮ ‬والتي كانت تجعل منه أحياناً‮ ‬شخصاً‮ ‬دائم النقمة علي كل شيء‮.‬

ظل حسين عراقياً‮ ‬حتي النخاع،‮ ‬رغم جنسيته الألمانية وإقامته في ألمانيا نحو أربعة عقود‮. ‬دار معظم حديثه عن العراق،‮ ‬وظل العراق محور كتاباته‮. ‬وكانت روايته الألمانية الأخيرة التي لم تجد ناشراً‮ ‬بعد،‮ ‬تدور حول شخصية‮ ‬يونس بحري الصاخبة،‮ ‬ذلك العراقي الذي عاش في برلين النازية منبهراً‮ ‬بهتلر،‮ ‬ثم عمل مذيعاً‮ ‬في محطة برلين العربية،‮ ‬وكان‮ ‬يبدأ كلامه بـ"حي العرب‮"‬،‮ ‬علي وزن‮ "‬هايل هتلر‮" ‬التحية النازية الشهيرة‮. ‬أما آخر كتب الموزاني العربية فهو كتاب‮ "‬أيام الجمر والرماد‮" ‬الذي عاد فيه‮  ‬مرة أخري‮ - ‬إلي العراق‮.‬

أتذكر آخر زيارة قام بها حسين لي‮. ‬كنت قد أقمت حفلة صغيرة دعوت إليها حسين مع عدد صغير من الأصدقاء‮. ‬آنذاك كنت أعمل علي كتاب‮ "‬غونتر‮ ‬غراس ومواجهة ماضٍ‮ ‬لا‮ ‬يمضي‮" ‬الذي ضمنته فصلاً‮ ‬عن الترجمات العربية لأعمال جراس،‮ ‬ومحور ذلك الفصل هو رؤيتي النقدية لترجمة‮ "‬طبل الصفيح‮" ‬التي أنجزها حسين‮. ‬أرسلت مقتطفاً‮ ‬من الفصل قبلها بنحو أسبوع لينشر في صحيفة‮ "‬الحياة‮"‬،‮ ‬وتشاء الصدف أن‮ ‬يُنشر في‮ ‬يوم الحفلة بعنوان هجومي لم أختره‮.‬

عندما حضر كل المدعوين وتخلف حسين،‮ ‬أدركت أنه قرأ المقالة وأغضبته،‮ ‬ومست نرجسية الفنان داخله،‮ ‬أو ربما اكتفي بالعنوان المزعج،‮ ‬أو ربما شعر بهجوم شخصي عليه رغم حرصي الشديد علي موضوعية النقد‮. ‬بعد تأخير أكثر من ساعة جاء حسين،‮ ‬وبمرح ونبل قال بصوت عال أمام كل الحاضرين‮: ‬جئت لك بزجاجتين من النبيذ الفرنسي الفاخر،‮ ‬واحدة بمناسبة عيد ميلادك،‮ ‬والثانية لأنك شتمتني اليوم في‮ "‬الحياة‮".‬

في تلك الأمسية لم‮ ‬يتوقف حسين عن إلقاء النكات وإشاعة جو البهجة‮. ‬وبعد انصراف معظم الضيوف،‮ ‬وبعد أن كان قد احتسي كئوسا لا تعد من النبيذ الأحمر،‮ ‬طلب الاستماع إلي أم كلثوم،‮ ‬وتحديداً‮ ‬إلي أغنية‮ "‬الأولة في الغرام‮". ‬قال لنا إن سعيد الكفراوي حكي له خلال إحدي زياراته للقاهرة أن بيرم التونسي كتب هذه الأغنية رثاءً‮ ‬لابن الموسيقار زكريا أحمد‮. ‬وعندما بدأت الأغنية،‮ ‬غرق حسين في حزنه العراقي الدفين،‮ ‬وكاد‮ ‬يبكي مع الست وهي تنوح‮: "‬من‮ ‬يوم ما سافر حبيبي،‮ ‬وأنا باداوي جروحي،‮ ‬أتاري في‮ ‬يوم وداعه،‮ ‬ودعت قلبي وروحي‮. ‬طالت عليّ‮ ‬الليالي،‮ ‬وأنت‮ ‬يا روحي أنت،‮ ‬لا قلت لي فين مكانك ولا حترجع لي امتي‮."‬

كان حسين‮ ‬يعتبر هذه الأغنية من أجمل أغاني الست،‮ ‬وربما كان‮ ‬يعتبرها رثاءً‮ ‬لكل من أحبه وفارقه منذ أن‮ ‬غادر وطنه،‮ ‬وإلي أن فارق الحياة‮.‬

 

علق هنا