التسوية الوطنية وخيارات القبول الشعبي

بات حديث  التسوية الوطنية أو التاريخية الشغل الشاغل للفرقاء السياسيين، والرهان السياسي على حسم ملفات الصراع الأهلي والجماعاتي، وبقدر مايحمله هذا الحديث من نوايا، فإنه يثير- أيضا- الكثير من التساؤلات حول جديته، وكيفيته، وحول الخيارات التي سيتم طرحها على الشعب العراقي، 

لاسيما وأنّ هناك الكثير من المشكلات الأمنية والقضايا مازالت عالقة، وتمسّ شخصيات سياسية يُراد ادماجها في عملية التسوية الوطنية، وبطريقة تعيدنا الى الأطروحة القديمة (عفا الله عما سلف) وكأنّ ماجرى من أحداث ومن أعمال ارهابية ارتبطت بتلك الشخصيات خضع الى نوع من التعطيل للتسوية الداخلية...

لا أحد يرفض الحاجة الى المصالحة، والى إيجاد تسوية تعزز المسار الوطني، وتلمّ الجميع على مشروع وطني حقيقي، لكن هذا لايعني وضع الأمور خارج  سياقها، والتفريط بحقوق وطنية، والتجاوز على جرائم ومواقف تورطت بها جماعات معروفة وتحتاج الى معالجات قانونية وأخلاقية ومجتمعية، وعلى وفق تأكيد المصلحة الوطنية والشعبية في آن معا، فان العديد من فرقاء التسوية كانوا جزءا من الأزمة، وأنّ مواقفهم  وسلوكهم إزاء العملية السياسية كانت تحمل معها هاجس المؤامرة، كما أن دورهم  في تضخيم الاعمال الارهابية التي تعرضت لها العديد المدن العراقية فاضح، وصولا الى مساعدة الارهاب على احتلال مدن بكاملها، مع تصعيد اعلامي وسياسي، وعبر أجندات عربية معروفة بعدائها للعملية السياسية..

من هنا يجب أن يكون العمل على إنجاز مشروع التسوية الوطنية واضحا وشفافا، وأنّ يحظى بقبول شعبي، وبعيدا عن لعبة اصطياد المغانم التي يراهن عليها البعض، مع الأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات الحادثة في الميدان العسكري وفي العملية السياسية، وبما  يعزز قوة الدولة العراقية ومسار مشروعها السياسي الوطني...

سياسات ومواقف..

اختزال توصيف التسوية الوطنية بالبُعد السياسي فقط سيكون قاصرا، ويحمل معه دلالات تحد من قيمة أي إجراء وطني حقيقي تقوم به الحكومة، والقوى الوطنية، وهو مايعني إبراز قيمتها الشعبية والمجتمعية، وعلى وفق خارطة طريق تتسع للمسار الوطني الجامع من جانب، وتقطع الطريق على كل من تلوثت أيديهم بدم العراقيين، أو مَنْ عمد الى التحريض الطائفي او تجييش الجماعات الارهابية عبر خدعة خيم الاعتصامات، أو الدعوة الى أقلمة المدن العراقية تحت يافطات طائفية..

تفاعل الاجراء السياسي مع القيمة الاجتماعية للتسوية سيحمل معه أبعادا انسانية ووطنية، وسيضع الجميع أمام رهان بناء الدولة الجديدة، وبعيدا عن التخوين، أو العبث بالخيارات الوطنية، والتعاطي غير المسؤول مع الاجندات الاقليمية، فلا شك أنّ لبعض الدول في الاقليم مصالح وحسابات، ولها سياسات ومواقف، والتي تقضي الاشارة اليها في كل مفصل من مفاصل التسوية، وأنْ تكون بضمانات دولية، وليس الاكتفاء ب(الأمم المتحدة) التي لاتملك لوحدها القوة الواقعية والمعنوية للتعاطي مع تعقيدات صراعية ومع مشكلات بهذا المستوى من الخطورة..

المتهمون والعنوان الوطني..

حين  يؤمن الجميع بأهمية مثل هذه التسوية الوطنية، فإنهم ملزمون كذلك بإحترام كل السياقات الوطنية، والاعتراف بشرعية العملية السياسية، وبقرارات الدولة وسلطاتها، وهو مايعني أنْ يبادر من يريد تسوية حقيقية، لاسيما من الذين عليهم أحكام قضائية، الى تسليم أنفسهم الى الجهات المعنية لتسوية أوضاعهم، وليكون دخولهم تعبيرا عن احترام السيادة الوطنية، والسلطة القضائية، لعدم وجود أية سلطة أخرى قادرة على اسقاط الاحكام، فضلا عن كونها مدخلاً للتعبير عن حُسن النية إزاء الشركاء في العملية السياسية..

قضايا الاتهام لها معطياتها القانونية، ولها توصيفها الوطني، وبقطع النظر عن الجانب السياسي في الموضوع، فإن التعاطي معها يجب أنْ يكون منطلقا من ضرورة الحفاظ على هيبة الدولة، وعلى مصداقية مواقفها واجراءاتها، ولكي لايكون الرهان على القوة والتهديد والاستقواء بالآخرين مجالا لفرض شروط قهرية على الآخرين...

إن القناعة والمشاركة الجادة والمسؤولة بعملية التسوية الوطنية تتطلب ارادة حرة، مثلما تتطلب وعيا متعاليا، وايمانا بالمستقبل، وعلى وفق اسس تكفل مسار هذه التسوية، ودون اللجوء الى ممارسات ضيقة الأفق، وبنوايا وأجندات مشبوهة، والذي سيكون عبئا على تنفيذ أي إجراء حقيقي للمصالحة والتوافق والتسوية، وبما يجعل الحوار العراقي العراقي عنوانا وطنيا حقيقيا يُعطي الثقة بالمستقبل، وبمشروعية العملية السياسية والدفاع 

عنها..

التسوية مدخل لحوار وطني، ولرؤية واضحة، ولخيارات مفتوحة للاتفاق وللتشارك، ولرسم أفق جديد لعراق سيتسع للجميع، عراق بلا عنف ولا تكفير ولا اكراهات، وبعيدا عن التدخلات الخارجية في شؤونه الداخلية، وبما يدفع العملية السياسية والعملية التنموية الى مجالات واسعة وواعدة تنعكس على انعاش الواقع العراقي، وعلى فتح مجالات واسعة للبناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي في جميع المدن العراقية، وعلى سياساته الداخلية والخارجية، دونما فرض تصورات أو ضغوط قد تضع عملية التسوية أمام رهانات صعبة، وأمام معطيات من الصعب مواجهة تداعياتها..   

علق هنا