جمال خاشقجي يصفع وجوه الصحافيين العرب !

متابعة- العراق اليوم:

درج میدیا

إذا كان لقصة الكشف عن تفاصيل جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي من بطل، فهو الصحافة، لا بل الصحافة المكتوبة هذه المرة.

 “واشنطن بوست” قررت خوض المعركة إلى الآخر، و”نيويورك تايمز” ذهبت معها في هذا التحدي، والتحقت بهما صحف أخرى غير أميركية مثل “الغارديان”.

الصحافة المكتوبة في زمن الحديث عن أفولها كشفت عن قدرة كبيرة على التأثير وعلى الحد من جموح رؤساء مثل دونالد ترامب على المساومة على الحقيقة. فترامب ومنذ اليوم الأول قال إنه لن يضحي بمليارات الدولارات، هي قيمة صفقات السلاح مع السعودية، من أجل صحافي غير أميركي. ومن منع ترامب من الذهاب في هذا الخيار غير الأخلاقي هو الصحافة بالدرجة الأولى.

هذا درس كبير نحتاجه في زمن تبدو فيه المهنة في لحظة احتضار. فالانتصار الناصع ما كان يمكن أن يتحقق لو أن رؤى المتشائمين بمستقبل الصحافة، والمكتوبة منها تحديدا، كان صحيحا. فمن سيقف في وجه جنوح ترامب في الجريمة اللاحقة في ما لو أن الصحافة في زمن احتضارها؟ القدرة الهائلة على التأثير والرقابة وتقصي الحقيقة، في قضية جمال صارت درسا لا يستطيع أحد تجاوزه، ذاك أن العالم كاد يصدق أن ما تحمله الترامبية من ميل إلى المراوغة والمساومة على جريمة على هذا القدر من الوضوح، هو الصواب في زمننا هذا. ما أنجزته الصحافة هنا كان لحظة تاريخية، وهو تصويب لنزق مقترع قرر أن ترامب هو مستقبله. قالت الصحافة إن ترامب سقطة، وربما تتكرر، لكنه ليس قدرا أبديا لا تمكن مقاومته.

المعركة كانت هذه المرة ليس كشف الحقيقة، إذ إن الأخيرة كانت واضحة  منذ اليوم الأول، انما كانت على الحق في قولها. هذا ما طرحته الترامبية على الإعلام في الغرب من تحد، وهذا تماما ما انتصر به الإعلام.

لماذا هذا النجاح في زمن يصور بصفته زمن احتضار الصحافة؟ وماذا عن الفراغ الهائل في حال صح هذا التوقع؟ من للعدالة وللحقيقة إذا؟

الأرجح أن هذا الافتراض ليس صحيحا، وإن كانت المهنة تعبر في مرحلة انتقالية دقيقة. الحاجة إلى الحقيقة في تزايد مستمر، وأيضا إلى ضبط جنوح رجال هذا الزمن كدونالد ترامب ومحمد بن سلمان وبشار الأسد وقاسم سليماني. فهؤلاء جميعا سينعمون بجرائمهم في حال موتنا نحن الساعين وراء عدالة قضية واضحة وضوح جريمة إسطنبول.

 

الأرجح أن هذا التوقع (احتضار الصحافة) ليس صحيحا، لأن الحاجة إلى الحقيقة في تزايد، وفي معادلة العرض والطلب، لن يموت ما يزيد الطلب عليه. ونحن هنا لا نتحدث عن وضع نموذجي تمر به الصحافة في العالم، فالأخيرة لطالما اندرجت في سياسات ومواقع قد لا تكون منسجمة مع قيم صدرت عنها، إلا أن ساعة الحقيقة لا يمكن المساومة عليها. الكاتب في “نيويورك تايمز” توماس فريدمان كان سقط قبل سنة تقريبا في فخ مديح محمد بن سلمان، وهو كان يمكن أن يدافع عن سقطته بالقول أن ما كتبه هو قناعته. ولكن وما أن لاحت جريمة إسطنبول حتى انقلب على ممدوحه، وأعلن عن قناعته بمسؤولية بن سلمان عن الجريمة. وإذا كان فريدمان صحافي الـ “سيستم” وهو قد يساوم على قناعته، إلا أنه لن يساوم على حقيقة ناصعة، وإلا وجد نفسه خارج عاموده الصحافي.

قد يقول معترضون على هذا الكلام، لا سيما ممن صفعتهم الحقيقة، إنه لم يكن ممكنا للصحافة الغربية أن تصل إلى الحقيقة لولا الرغبة التركية بتسريبها، وهو ادعاء فيه مقدار من الصحة، لكن منذ متى كانت “الواشنطن بوست” و”نيويورك تايمز” بوقين لأنقرة. الصحافة في عملها وتقصيها يمكن، لا بل يجب، أن تستثمر في خلافات الدول، وأن تشق طريقا إلى الحقيقة من هناك. ويجب أن لا يضيرها أن الحقيقة تخدم طرفا في النزاع، حتى لو كان هذا الطرف متورطا بجرائم أخرى. إنها المهنة، وهذه شروطها، والسعي وراء كشف جريمة قتل جمال لن يكون ثمنه وقف السعي وراء كشف جرائم الجيش التركي بحق الأكراد.

لكن هذه المعادلة تنقلب مأساة عندما نفكر في أنفسنا نحن الصحافيين العرب. ذاك أن جريمة إسطنبول هي حدثنا وتراجيديتنا قبل أن تكون حدث الصحافة الغربية. وفي المقابل، كنا الأقل تأثيراً في كشف ملابساتها، لا بل كاد انقسامنا حول هوية القاتل يطيح بالإنجاز. وما قاله الكاتب أحمد بيضون في هذا السياق لجهة أن الحريريين في لبنان خسروا قتيلهم لأنهم وقفوا إلى جانب قاتل جمال، هو تعيين مأساوي لأنواع الخسائر التي أحدثتها جريمة القنصلية في إسطنبول.

بكل بساطة، صحافتنا ممولة من أنظمة تقدم كل يوم على جريمة لا تقل وضوحا عن جريمة قتل جمال خاشقجي، فيما صحافتهم ومنذ اليوم الأول من انتخاب دونالد ترامب لا توفر وقتا ولا فرصة لمواجهته. هي تملك هذه القدرة ليس لأنها تفوقنا حماسة إلى السعي وراء الحقيقة، بل لأنها بالدرجة الأولى صحافة يمولها مستهلكو الحقيقة والمستفيدون من تصدرها. صحافتنا ممولة من أنظمة حاكمة وجائرة وصحافتهم ممولة من قارئ مقتنع بأن الحقيقة تحميه وعليه أن يمولها. هذا ما صنع الفارق في القدرة على تقصي الحقيقة في جريمة إسطنبول.

ما حصل يجب أن يكون مناسبة للتفكير بمقدار حاجتنا إلى صحافة مستقلة. فكم يبدو مغريا وجميلا أن تذكر “الواشنطن بوست” دونالد ترامب بأنها سبق أن أسقطت ريتشارد نيكسون، وكم أن التعويض كبير عندما ألزمته بقبول حقيقة قتل جمال.

ونحن عندما نفكر في عجزنا أمام مشهد الفشل الكبير الذي أصابنا في بحثنا عن وجه قتيلنا يجب ألا تفارق هذه الحقيقة خيالنا. لقد وقفت كل من محطتي “الجزيرة” و”العربية” أمام مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول، واستأنفتا من هناك الحرب بين قطر والسعودية، وكادت الحقيقة تضيع في هذه الحرب الضروس. صحيح أن “الجزيرة” كانت أقرب إلى الحقيقة، لكنها كانت كذلك لأنها على الجبهة الأخرى من الحرب وليس لأن الحقيقة هاجسها. ونحن عندما كنا نسمع خبرا منها عن جمال، كان علينا أن نعيد التأكد منه عبر وسائل الإعلام الغربية، ذاك أن رغبتها بتحقيق نصر على السعودية تفوق رغبتها في السعي وراء الحقيقة.

كم يبدو مروعا أن يكون مشهدنا الإعلامي على النحو التالي: الصحافة الخليجية والصحافة المصرية أصابهما هذيان نكراني أمام مشهد الجريمة الواضحة والمعلنة منذ اليوم الأول من وقوعها، فيما صحافة قطر وشاشاتها ومنصاتها اندفعت للانتقام من عدو الإمارة في لحظة سقطته القاتلة. وبين هذين الإعلامين وقف إعلام إيران ومحورها شامتا وغير معني بهذه الجريمة الكبرى إلا بصفتها مشهدا لتخبط خصومه!

فاجعتنا بجمال توازيها فاجعتنا بإعلامنا وبصحافتنا. والدرس هنا كبير، والحاجة إلى صحافة يمولها القارئ هي اليوم أمر مفروغ منه. والقول إن الدعوة هذه طوباوية وغير واقعية، ليس صحيحاً في زمن توفر فيه التكنولوجيا فرصا فعلية لصحافة مستقلة. الأكلاف صارت أقل بكثير، والرقابة صارت أصعب والحاجة إلى الحقيقة في تزايد مستمر. ولا فرصة أمامنا لمقاومة الاحتضار إلا عبر شق هذا الطريق.

وهنا تلوح مسؤولية الصحافيين، فما أحدثته جريمة قتل زميلنا السعودي في قنصلية بلاده في إسطنبول من ارتدادات شطبت وجوه إعلاميين عربا، يطرح علينا مسؤوليات ليس أقلها التفكير في إنتاج قيم للمهنة يشكل الخروج عنها انتحارا مهنيا، تماما كما أشعرت هذه القيم توماس فريدمان بأن للمساومة حدودا يعتبر تجاوزها انتحارا.

الصحافة المستقلة يمكن أن تشكل مصنعا لهذه القيم ومختبرا لها، والكشف عن جريمة إسطنبول مثالا.

علق هنا