"سبايا سنجار" لسليم بركات: روايةُ اكتشاف الحزن

بغداد- العراق اليوم:

للمرّة الأولى على مدار سنوات، تبدو لغة الروائي السوري الكردي سليم بركات متخفّفةً بعيدةً عن التعقيد ومليئة بالحزن الجليّ على ما يحدث في سورية بشكلٍ مباشر، فبتحليلٍ سياسي يبدأ سليم روايته الصادرة مؤخّرًا تحتَ مسمّى "سبايا سنجار" بالحديث عن التجاذبات السياسية التي تحصل في سورية بين الأطراف الأساسية في النزاع بلغةٍ موارِبَة ولكن مفهومة آنَ اختزال الكثافة اللغويّة والخيال الممزوج مع الواقع والتشكيل، وكل هذا بسردٍ روائي تميّز به بركات خلال عمره الكتابيّ.

شرح لوحة تشكيلية/ كابوس

تبدأ الرواية بشرح لوحةٍ تشكيلية هو أشبه بشرح كابوسٍ يماثل ما يعيشه السوريون في الرّاهن، مرتبطة بـ "سارات"، الفنان التشكيلي الأربعيني الذي تظهر له سبيات من سبايا سنجار لمجرد تفكيره بالبدء برسم لوحة تجسّد ألم سنجار أو شنكال، عقب مهاجمة تنظيم متطرِّف لها، ومن ثم تتوالى السبايا في الظهور له وهو في مملكة السويد بين الغابات، وحواراتٌ حول المصائر واكتشاف الحزن ضمن روايةٍ يطغى عليها الطابعُ اللغويّ الذي ينحو منحى الحكمة كثيمةٍ من ثيمات ما كتبه ويكتبه بركات أكثرَ من التركيز على الحدث.

كل الشخصيات المنبعثة من موتها المأساوي تعرفُ "سارات"، وكلّ الشخصيات تحدّثهُ همسًا وكأنّ معرفةً قديمة كانت ومن ثم عادت أقوى، ليبدأ الحوار حول القتل والسياسة وسورية والذبح والجنس. الشخصيات جميعها على معرفةٍ عميقة بـ "سارات" الرسَّام الذي سيرسمُ المأزق إذا قُدِّرَ له أن يرسُم.

أينَ سنجار؟ سؤالٌ يراوِدُ الرسّام/ البطل، كلما همّ بالتفكير بلوحةٍ تمجّد سبايا سنجار، تخرجُ له السبايا ويخرج له عناصر تنظيمٍ ديني يشيرُ إليه بركات بكلّ وضوحٍ وصراحة ليجانبَ الواقع منطلقًا منهُ إلى المتخيَّل، كلٌّ يسردُ حقيقتهُ بعين الراوي الذي هو سليم ذاته، وبمحضِ سردٍ روائي يطول، يكشفُ الروائيّ عن مكنونات ما يريدهُ من هذا العالم، بعينٍ يرى ما هو بعيدٌ عنه وبأخرى يرسمُ ما يجب أن يكون عليه السؤالُ والردّ أثناء المحاورات التي تجري بين الراوي الرسّام وبين الأشخاص الخياليين الذين نجوا ولكن - بصفتهم موتى فقط- جرّاء البطش والعذاب والحزن. حكاياتٌ للسبايا وبزمنٍ غير محدّد على الدوام سوى باللحظة التي دخل فيها التنظيم المتشدِّد لكي يسبي الفتيات ويقتل النّاس، زمنٌ حقيقي يوجَد، وواقعٌ تعكسه الرواية بتفاصيلها، وليسَ الأمرُ مقتصرًا على ظهور سبايا من سنجار، إنّما يظهر من تسبَّب في سبيهم كذلك، رجلٌ من التنظيم يكنى في الروايةِ بـ "عدنان حمزة الملقّب بأبي دحية" قتلهُ التنظيم ذاته على خلفيّة حلمٍ ورغبةٍ غير محبَّذة في عرف التنظيم وتقليده، فقد قال ذاتَ تماهٍ أعمى مع أيديولوجيَّة التنظيم دونَ أن يعيَ العواقب ويُعدَم بطلقةٍ من الخلف من "شرطة الحسبة في دولتنا" كما تفوّه جنديّ الدولةِ/ الشبحُ الحيّ: "أنا مغرمٌ بالخليفة أدامه الله"، وهذا ما هو ممنوعٌ عرفًا وتقليدًا استنادًا إلى التورية من وراء تلك الرغبة التي تُفضي إلى فعلٍ محرَّم شرعًا وتقليدًا.

يذكرُ الراوي المدنَ السورية من حيث توزّع عناصر تنظيم الدولة بكل دقَّة، يُظهِرُ "عدنان" الشخصية الطارئة التي تدخل إلى عالم الرواية دون سابق إنذار مدى حبّ أفراد التنظيم للفكرة، فكرة أن تكون هناك دولة للخلافة الإسلاميَّة والدفاع المستميت عن الفكرة تلك، ومن ثم استماتته في التوسُّل لـ"سارات" بالشدّة ذاتها أن يرسمه على خيلٍ وبثيابٍ تشبه ثياب الخليفة!:

"أأنت مؤمنٌ، يا عدنان؟"، سألته فانتفضَ بصوتٍ قَلَقٍ، مفاجأً:

-مؤمن؟ والله لو استدعى البرهان على إيماني أن أنهش كل بيت في الغرب، بأسناني، لفعلتُ.

"وماذا عن البيوت في الشرق؟"، سألتهُ، فردَّ:

-نحن ننهشها. سنملأ جهنّم بالرؤوس اللاهية عن ذكرِ الله.    

اللافت في رواية سليم الجديدة هو تقسيمه للسرد إلى فصول، وكل فصل يحمل عنوانًا للوحةٍ تعود إلى أحد الرسّامين العالميين ليبني سليم سرده في الفصول فصلًا فصلًا اعتمادًا على التشكيل ودهاليزِ اللون اللامنتهية، وكلّ فصل يحمل فكرةً ما لا تخلو من واقعيَّة مستندًا إلى اللوحة التي اختارها ليتّجه مباشرةً إلى الخيال، صورٌ تتراءى للراوي، سبايا وكأنّهن أجسادٌ لصورٍ كانت موجودةٍ في لوحاتٍ قديمة وبُعثِت كي يرسمها الرسّام/ الراوي مجدّدَا لكن دون أدنى فكرة وبطلبٍ/ توسُّلٍ من الشخصيّات التي بُعثت إلى الحياة وليظهروا لـ "سارات" مطالبين إيّاه بمكانٍ ما مميّزٍ في اللوحة التي لا يعرف "سارات" متى سيرسمها وكيف! وبأسئلةٍ يوجّهها الراوي إلى شخصياتٍ من بنات خياله توصِلُ الخيالَ إلى قمّته يستمرُّ السرد، فـ "شاهيكا" السبية التي تظهرُ منذ بدء الرواية هي التي شكّلت الأزمة بالنسبة للرسّام الذي سرعان ما يلقى نفسهُ متأقلمًا مع الصُّورِ الخيال التي تتوالى، ويبدأُ الحوارُ عن لحظات الهجوم المنفَّذ على "سنجار"، الجبل الذي يستفيضُ الراوي في ذكره ويسردُ الأماكن وجغرافيته الجبليَّة، وفي أغلب الأحيان يغدو السردُ لمحاتٍ عميقة ودقيقة عن المكان وطقوسه وتقاليده عبر التاريخ، مازجًا بين الماضي والحاضر.

"ملخص الحريق"

بخفَّة ظلٍّ لغةً ينتقل الرسّام "سارات" ضمن تفاصيل حياته اليوميَّة، سواء بالحديث مع مطّلقته الرسّامة أو مع عاملة السوبر ماركت، وتلك الحوارات الساخرة عن اللون وعن طرق الجهاد المختلفة التي يسردها "سارات" تأتي وكأنّها استراحةٌ للقارئ كي يتخفّف من الحزن الكثيف في ثنايا العمل الروائي، حزنُ السبيِ، حزنُ القتل والذبح، حزن الحرب وحزن الجهاد وحزنُ الشرق بأكمله، وما الحديثُ بين "سارات" وبين صديقه الرسَّام الأرمني إلّا دلالةً وغيرها الكثير في أجواء العمل الروائيّ:

"ألا تسمعُ بمتفرّعات الجهاد باتت أكثر سعة من المعاجم؟ جهاد الفُروج، جهاد النكاح. جهاد الذبح. جهاد المواقع على الإنترنت. جهاد الرسائل الإلكترونية. جهاد الصوت. جهاد الكِتاب. جهاد الظلّ. جهاد الحيلة. جهاد الخوف. جهاد الترهيب. جهاد الكراهية. جهاد الهمبرغر. جهاد التوابل. جهاد النفاق".

ثمّة شرحٌ في بداية كل فصل، تفاسيرُ للريحِ والأخلاق والذبح والفوضى، يستمرّ سليم في عرض فلسفةِ الأشياء والكائناتِ من وجهةِ نظره لغةً:

"هل من معنى أخلاقي للريح؟ للرياح مواسمها، تَتَجَمّعُ خلاياها من مخابئ فوضى حتّى تكتمل نظامًا واضح البلاغةِ في التبشير بالجهات: رياحٌ شمالية، غربية، جنوبيَّة، شرقيَّة، أو فروع منها، ولها طباعٌ تُشخَّصُ ككل طباع، فهي حارّة أو صقيعية، أو محايدة، وهي رطبة، أو جافَّة، أو محايدة، لكنها لا توصف رياحًا إن لم تكن هُوْجًا، عاصفةً، رِعانًا، جوامحَ في هبوبها".

وفي دلالةٍ على انعدام ترخيص كل شيء في الشرق الرّاهن، نقرأ الفصل الذي يقوم فيه رجلٌ ما بقنص هرَّةٍ سوداء ومطاردتها ببندقيّة لأنّها لم تبقِ عصفورًا من عصافيره والخوف من أن يتّصل الراوي بالشرطة، وهذا ما لن يفعله، الحوارُ/ الحكمة الذي يشرحُ ما يعانيهُ الشرقُ منذ سنواتٍ بعيدة وباختزالٍ لغوي مكثَّف:

"لا شيء يحتاج إلى ترخيص من الشرق الذي جئت منه:/تمزيقُ الشعوب لا يحتاج إلى ترخيص./تهشيم الدول لا يحتاج إلى ترخيص".

روايةُ اليومِ والأمس في ثنايا ما يحصلُ الآن، سمةُ العمل الأساسيَّة، أو مثلما يقول الراوي: "إحياءُ الألمِ دينًا"، كما تكشفُ الحوارات مع الشخصيات المنبعثة معرفةً عميقة للراوي بالحدث اليوميّ وتفاصيله بطريقةٍ ذكيَّة صادمة غير التي نفكّر بها نحنُ القرّاء - نحسبها بديهيَّة للوهلة الأولى-:

"لا مخدّرات في أرض سلطة الخلافة"، ردّ./ "واو"، عقّبتُ متصنّعًا إعجابًا. تمتمتُ:/ - ماذا عن حبوب الجهاد؟/ "ماذا عنها" ردّ بسؤال./ "هي مخدّرات"، قلتُ بإشارةٍ واضحة إلى عقاقير يتناولها جنود دولة الخلافة في المعارك".  

"سبايا سنجار"، روايةُ "الورطةِ والمأزق"، روايةُ "لجوءِ الموتى"، شخصيَّاتٌ خاضت الحروب وأنواع الجهاد، وسبايا تذوّقن طعمَ المرارةِ يريدون من رسّامٍ متورّطٍ بالخيال أن يرسمهم كلٌّ حسبَ ما يريده ولكلٍ شروطه وهيئاته التي يودّون أن يظهروا بها في اللوحة المزعومة، انتقالٌ بين أقاليم الخراب روائيَّا، وكما كتبَ على الغلاف الخلفيّ للروايةِ تعريفًا مقتضبًا/ ملخَّصًا: "سبيُ الإيزيديات في سنجار، بيعهنَّ. مصائرهنّ. المذاهب المتناحرة. شرائعُ القتل. الأمكنةُ التائهة المُنتهكة. انتحارُ الشعوب. هذه الرواية سيلٌ، لا تُختَصَرُ وقائعها الجارية بين ضفتيّ الجغرافيا المتوّحشة للقرن الحادي والعشرين، إنّها ملخَّصُ الحريق".

 

علق هنا