عبد الوهاب الساعدي وسِّر الإتصالات الهاتفية مع (أم سعدون) آخر الليل

العراق اليوم- بغداد

مقاتلون أقوياء كالحديد، صلبون كالماس، لكنهم رقيقون جداً، أرق من النسيم، وأشف من ورد البنفسج.

ولأنهم كذلك، فقد سأل الكثير من الباحثين عن السر في هذه الثنائية الفريدة التي يتمتع بها المقاتلون العراقيون دون غيرهم من الآخرين.. فكل مقاتلينا دون استثناء، سواء أكانوا جنوداً بسطاء، أم ضباطاً كبار، أم مقاتلين في صفوف الحشد الشعبي يشتركون بميزة الصلابة الفولاذية، والعناد الواعي، وفي نفس الوقت فهم يتميزون بالعذوبة الصافية، والرقة العجيبة، التي تجعلهم لغزاً محيراً لمن لا يعرف منجم معدنهم الأصيل. فخذ مثلاً الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي، ومعه مجموعته القتالية الفذة التي كسرت أنف الدواعش في أحياء الساحل الأيسر من مدينة الموصل، وخصوصاً أحياء الزهور، والبكر، والمثنى، والقاهرة، والمصارف، ودور الامن، والجامعة والمحاربين، والبريد، والزهراء وغيرها من الأحياء الموصلية المحررة بسواعدهم. فها هؤلاء الأبطال الذين أثبتوا فرادتهم القتالية الباهرة، لايختلفون عن غيرهم من أشقائهم الأبطال في قوات مكافحة الإرهاب، ولا عن أخوتهم في الفرق العسكرية الأخرى، ولا يختلفون عن رفاقهم في الشرطة الإتحادية، أو فصائل الحشد الشعبي البطل. فمجموعة (الساعدي) الباسلة هي جزء حيوي من جسد جهاز مكافحة الإرهاب، وجزء فعال من قوات العراق العسكرية والأمنية الشجاعة.

 

 

إن هذه المجموعة التي تضم الفريق الساعدي،  واللواء سامي العارضي، والعميد حيدر فاضل، والعقيد اركان التكريتي، والمقدم مهند ، والرائد سلام ، وغيرهم من الضباط الشجعان الذين تعَّذر علينا معرفة أسمائهم جميعاً، إضافة الى عدد من المراتب الذين نذروا أرواحهم فداء للعراق الغالي مثل رأس العرفاء محمد هادي ورأس العرفاء علي حسين الحلو، والجندي سهل نجم البصري، وغيرهم من المراتب الأبطال.. هم إنموذج للصير والمطاولة والروح العالية والتحمل الفذ. فهل تصدقون مثلاً لو قلت لكم، أن هؤلاء المقاتلين لم يروا أهاليهم منذ 7 / 10/ 2016 بل أنهم كما يقول رأس العرفاء محمد هادي لم يعبروا حتى الساتر الذي يفصلهم عن البيشمركة في (حسن الشامي) منذ أربعة وستين يوماً..

 

(أم سعدون) وإتصالات الساعدي في آخر الليل

كان لزاماً علينا ونحن نتحدث عن الأساطير، أن نمر على الإسطورة العسكرية العراقية، الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي الذي خصه (الخليفة) أبو بكر البغدادي بإثنين من أمهر القناصين لديه، لقنصه والتخلص منه بسرعة، وأقصد: القناصين (الروسيين) اللذين كشفتهما المخابرات العراقية وابلغت الساعدي عنهما !

ونتوقف عند هذا البطل، لنقول له: بماذا ياترى يفكر الساعدي عندما يأتي المساء، (وساعات الغروب) موحشات كما يعرف الجميع.. ومن يخطر في باله حين يتواجه (أبو ابراهيم) مع الموت وجهاً لوجه، وقد واجهه ألف مرة من قبل.. وكم مرَّ عليه دون ان يتمتع بالإجازة، أو يرى بيته وأهله وأصحابه، وفراشه الذي لم ينم عليه منذ فترة ليست قصيرة.. 

كيف يشعر (أبو ابراهيم) عندما يتذكر أهله، وبماذا يحلم حين يغفو في ساعة إستراحة المقاتل؟ 

ضحك الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي وقال: إنها أسئلة كثيرة ياصاحبي، وعندي جواب واحد لها..

فثق بإني أفكر قبل كل شيء بهؤلاء الناس الأبرياء من أهل الموصل وبكل الأطفال والنساء والشيوخ الذين يقبعون الان في الأسر الداعشي المظلم.. فهدفنا جميعاً هو أولاً تحرير المواطنين، وتحرير المدينة برمتها من الإحتلال البغيض، ومعاقبة القتلة الذين سفكوا دم أخوتنا وأبنائنا من أهالي الموصل عبر أحالتهم الى القضاء العادل، بعد ذلك أفكر بالإجازة أو كم بقيت بعيداً عن الدار والأهل والأحبة، أو بماذا أفكر في الأحلام والأمنيات الشخصية.. إن واجبي - وطنياً ومهنياً وإنسانياً - هو تحرير الناس وتحرير الأرض العراقية الطاهرة من براثن أقذر المخلوقات على هذا الكوكب..

 

قلت للساعدي: دعني اسألك وأكرر السؤال عليك، عن المدة الزمنية التي قضيتها مع رفاقك هنا دون ان تغادرهم ؟

فرد الفريق وقال: لقد كلفت من قبل القيادة العليا للقوات المسلحة بتاريخ 7 /  10 ومنذ ذلك التاريخ الى هذه اللحظة لم أزر بيتي، ولم ألتق أحداً من أهلي، إنما أنا هنا في بيتي (العسكري)، أعيش مع أهلي وأخوتي المقاتلين الشجعان، نأكل جميعاً من ذات (القصعة) ونشرب من ذات الماء. فنحن نسعى جميعاً لهدف سام عظيم، هو أهم من النوم في فراش مدني، وأهم من الأكل في أوانٍ لامعة.. صحيح إني لم أر أولادي، وبناتي وزوجتي، وأمي الحبيبة، وأصدقائي منذ أربعة وستين يوماً، لكني لا أشعر بمرارة الفراق، مادام الأمر يخص العراق ويخص تحرير مدن العراق.

قلت له وأنا أحاول مشاكسته: من هي (أم سعدون) التي تتصل بها سراً آخر الليل؟

 ضحك (أبو ابراهيم) وقال:

إنها أمي الحبيبة.. أمي التي جاءت بي الى هذه الحياة. أتصل بها يومياً كي أسمع صوتها الحنون، فأزداد شجاعة، وثقة بنفسي، وأزداد أمناً وسلاماً وأيماناً.. 

قاطعته وقلت له: ولماذا لا تتصل بها في النهار؟

فقال: الشبكة هنا ضعيفة جداً في النهار.. ثم إننا جئنا لمقاتلة العدو، وليس للإتصالات التلفونية، لكني رغم ذلك أنتهز أية فرصة قتالية تسنح، لا سيما في الليل حيث تتوقف المعارك تقريباً، فضلاً عن توفر الشبكة بشكل جيد، فأجري إتصالاًتي بأم سعدون (وسعدون هو شقيقي الأكبر الراحل)، وأتصل كذلك بأفراد أسرتي الباقين..

قلت له: أربعة وستون يوماً وأنت ربما لم تستحم بحمام كامل، ولم تأكل ما تشتهيه نفسك، ولم ترتد ملابسك المدنية، ولم تر أهلك وأحبتك.. أليس هذا كثيراً على شخص بعمرك؟

فقال أبو ابراهيم: نعم إنه كثير حين لا يتعلق الأمر بحرية الأرض العراقية، ولا يخص شرف العراقيات الطاهرات، لكنه يصبح قليلاً جداً حين ترى الفرح والدمع مختلطين في عيون الناس بعد تحريرهم من عصابات داعش، ويصبح صغيراً جداً حين يستقبلك أطفال الموصل بالورد والهتاف والقبل والأناشيد، وهم يعانفونك بكل براءة وفرح مجنون.. وهنا أود أن أقول لك بأني كنت قد بقيت في الرمادي ستة أشهر دون أن أغادرها ساعة واحدة، وبقيت ايضاً في بيجي ثلاثة أشهر، لم أغادرها إلاَّ بعد إصابتي بجروح خطيرة !

قلت له: وما حكايتك مع الأطفال، فأغلب صورك معهم؟

قال: نعم فأنا أحب الأطفال أولاً، ثم إني أرى صور أولادي وبناتي في عيون هؤلاء الأطفال، رغم إن أولادي وبناتي ليسوا أطفالاً، فأبراهيم مثلاً ملازم في الجيش العراقي، وبناتي كبيرات، لكني لا أعرف لماذا أراهم في عيون اطفال الموصل .. ولا أخفي عليك فإن مستقبل العراق كله مزروع في جباه هؤلاء الأطفال الأبرياء، فهم مستقبل العراق العزيز، العراق الذي نموت من أجله، ونركض كالبرق الى أحضانه الدافئة.

علق هنا