لموقف من التطبير : شرطة وفلاسفة

مهند الساعدي

حين سألت شيعياً من أصدقائي يحمل شهادة البكلوريوس في تخصصه ، وهو ربع مثقف ، ويطبر راْسه مرة واحدة في السنة هي ليلة العاشر من محرم : لماذا تفعل ذلك ؟

- قال : مواساة لأهل البيت عليهم السلام ولرأس الامام الحسين ( ع) الذي تناوشته سيوف بني أمية .

- فقلت له : لكن رأس الامام الحسين عليه السلام ضُرب بيمين الشمر ( شُلَّت يمينه ) وسيف الشمر وبقية القتله ولم يضرب الامام راْسه بيده !!

فاذا كان رأسك يواسي راس الإمام الحسين ( ع ) فهل ان ذراعك تواسي ذراع الشمر !!!

وهذا الحوار من عشرات الحوارات المقتضبة التي تعودت أن أخوضها بأعصاب باردة ، وقليل من القلق على مستقبل تأثير التطبير وأخواته على قضية الامام الحسين عليه السلام ودورها التصحيحي الكبير في الاسلام ولصيرورة تاريخ المسلمين .

والتطبير ظاهرة تتصل بالثقافة التاريخية للدين الاسلامي ، وللمذهب الشيعي الاثني عشري فقط ، وهي شعيرة دينية مفترضة ، وليست مفروضة ، تنتمي في عمقها الى فلسفة الاعمال الجوانحية والجوارحية ، التي لا يخلو دين سماوي ولا أرضي منها ، حيث تؤثر اعمال الجوانح الظاهرة ، على عزائم الجوانح الباطنة . فقد ورد في دعاء كميل ( قَوِّ عَلى خِدْمَتِكَ جَوارِحى وَاشْدُدْ عَلَى الْعَزيمَةِ جَوانِحي ) .

ولا طائل ولا جدوى من تقييم الحركات ، والأعمال العبادية ، والشعائرية ، تقييما بصرياً او جمالياً منفرداً ، فان التفسيرات ، والفلسفات الدينية الباطنية لهذه الحركات الظاهرية ، تعطي منطقاً لكل شئ ، وتنحو بغير المعقول نحواً يسبغ عليه المعقولية ، والقبول .

ما دمت قادماً من بيئة دينية وثقافية وحضارية مختلفة، فان كل ما تقع عليه عيناك من اعمال عبادية ، وحركات ، و رقصات دينية متنوعة بتنوع الأديان ، والمذاهب ، والملل والنحل ، سيبدوا صادماً ، وغريباً للوهلة الاولى ، حتى تستمع لتفسيراته ، وتأويلاته ، وفلسفاته العميقة ، مشروحة من قبل اصحاب هذه الديانة ، او اتباع ذلك المذهب ، فيتم بعد ذلك ترويض الذائقة البصرية على قبوله ،او على الأقل تفهمه ، وعدم استغرابه ، او استنكاره .

حين كنت شاباً يافعاً يعشق التصوف والصوفية ، سخرتُ ذات يوم من اعمال التطويح بالرأس ، ذات اليمين وذات الشمال ، الذي رايت دراويش التكية الطالبانية القادمين من شمال العراق يقومون به في مرقد شيخ الطريقة القادرية السيد عبد القادر الگليلاني .

وبقيت لفترة طويلة احمل انطباعاً بعدم عقلانية هذه الحركات وأنها ليست من الاسلام ، وأنها مثيرة للسخرية ، حتى سألت عنها ذات يوم حفيد شيخ الطريقة الكسنزائية في العراق فشرح لي فلسفة التطويح بالرؤوس كما يلي :

ان الأذكار والتسبيحات الألفية الطويلة والمجهدة ، التي يؤديها المتصوف في أوراد الطريقة الجماعية ، تحدث في قلبه حباً ، ثم شوقاً ، ثم وجداً . وان هذا الوجد الحار يحدث في نفسه حرقة شديدة . وناراً تحتاج ان يطفئها من خلال ( استراحة الذاكر ) التي يأخذ فيها وضع الاسترخاء ويطوح براسه ذات اليمين وذات الشمال بطريقة بطيئة ومتئده تمنحه برد الراحة بعد حرارة الحب والعشق والشوق والوجد لمحبوبه البعيد القريب بلا مسافة .

وحين خرجت من العراق وتعرفت في بعض البلدان على بعض اتباع الطريقة المولوية كنت احمل ذات الانبطاع عن الرقصة المولوية التي يدورون فيا حول أنفسهم ، قبل ان استمع الى فلسفتهم الصوفية العميقة التي تجعل الكون و(الوجود الممكن ) كله يدور حولهم حين يدورن .

اليهودي الذي يهز راْسه امام حائط المبكى كأنه دجاجة تنقر الحب ، والافريقي الوثني الذي يرقص بالرمح كأنه وحشي قاتل الحمزة ، والمسيحي الذي يرسم الصليب على صدره وجبينه ، والسيخي في ولاية البنجاب الهندية وهو يتقرب الى الله بالخمر والغناء ويرسل شعره من المهد الى اللحد ، والمشط والحربة وما شابه ذلك ، والهندوسي الذي يركع للبقرة ، ويحرق الميت ، وغيرها من الصلوات الدينية والرقصات ، والحركات ، والانفعالات ، والأدوات ، التي يظل الانسان مستغرباً لها قبل ان بخضع للتخدير الفلسفي ، والترويض الديني الذي ياتي به قادة واتباع هذه الأديان .

هذا هو تاريخ الأديان ، وهذه هي ممارسات الأديان ، وهذه هي فلسفات الأديان ، فيها الافكار الفلسفية والوجودية العظيمة، والعقائد العقلانية المقبولة، والعبادات الراقية المهذبة للنفس . كما ان فيها المقدسون ، والأخلاقيون، والمناقبيىون، والشهداء، والمضحون.

وفيها كذلك البهاليل ، والدراويش ، والمهووسون والمجانين، والدجالون، والمشعوذون الذين لا يخلو منهم دين، ولا تتعب في العثور عليهم في كل مِلة ونِحلة.

لكن التطبير من وجهة نظري : حركة هستيرية مجنونة ، تعطي إيحاءً عنيفاً جداً ، وترسخ شبهة العنف في الدين الاسلامي ، وشبهة الابتداع عند الشيعة ، وهي تفتقر للشرعية ، فلا يوجد فيها نص من المعصوم ، وفعلها للتأسي لا دليل عليه ، وللمواساة غير تام ، وغير منقح الملاك ، والإبقاء على عنوان الإباحة الأولي فيه محل أشكال كبير .

لكن وجهة نظري المسكينة هذه ، هي وجهة نظر عقائدية عقلانية فقهية ، تنظر الى تقييم المصالح ، وتعمل تحت ميزان النفع والضرر .

اما هذه الشعائر المستحدثة ، والمتوالدة عن بعضها ، والتي تنتج في ذات الوقت : الدين وفلسفة الدين ، والشعائر وفلسفة الشعائر ، والجنون وفلسفة الجنون ، والتخريف وفلسفة التخريف ، والتخلف  ، وفلسفة التخلف ، فسوف لا يجدي معها منطق ولا عقل ، رغم ان النقاش والنقد ينجح الى حد ما في ردع البعض وتوقف البعض و وتشكيك البعض ومنع البعض الاخر ممن لم يتورط بعد بلذة شج الرؤوس .

في ايران لم تفلح فلسفة الولي الفقيه العقائدية ولا فتواه ولا ولا فتوى بقية المراجع الذين حرموا التطبير في إيقاف التطبير من نجح في ذلك هي شرطة الولي الفقيه الحاكم فحسب .

في العراق لا تزال المعركة حول التطبير على اوجها بيم المدرسة الصدرية والمدرسة الشيرازية . فيما تتخذ مرجعية السيد السيستاني النافذة والمؤثرة موقفاً وسطاً ، بين الافتاء بالضد الذي يشق الشعائريين ويفتح عليها باب الاعتراض ، ويؤلِّب عليها العامة ، ويقلل إعداد المقلدين . وبين السكوت على مضض الذي يغري المزيد من مجانين الشيعة في ممارسة هذه ( الرقصة الدموية ) .

ينقسم الناس حول التطبير وأخواته الى ثلاث دوائر :-

١- الدائرة الشيعية المنتجة لهذه الممارسة .

٢ - الدائرة الاسلامية العامة .

٣ - الدائرة العالمية الاوسع من في المسلمين .

فالدائرة الشيعية /  تنقسم حول الظاهرة بين رافض لها ، ناطق وصامت ، يرى عدم مشروعيتها ، او عدم نفعها ، او ضررها على المذهب . وهم بحسب الانطباع الأولي الاعم الأغلب من الشيعة ، وبالخصوص النخبة المتعلمة والمثقفة والمتنورة . ويرى الدعاة والمبشرون بالتشيع ان التطبير يشوه صورة المذهب ، ويصد المسلمين وغيرهم من الدخول فيه او تأييده على الأقل .

وتعتبر الجماعة الشيرازية هي المتبنية والداعمة والمدافعة عن التطبير في زمننا هذا ، وقد صار التطبير علامة وشعار لاتباع هذه الجماعة ، لا يتنازلون عنه نظرياً ولا عملياً ، وهو عندهم مثل الشهادة الثالثة في الآذان لعموم الشيعة .

والدائرة الاسلامية / تراه بدعة من بدع الشيعة ، ومظهراً من مظاهر اعلان الكراهية للصحابة وأهل السنة ، واتهامهم بقتل الامام الحسين عليه السلام ، وتستغله الوهابية في تأكيد صواب رأيهم في تكفير الشيعة ، وأنهم مبتدعون ، مكفرون ، لعانون للصحابة وأمهات المؤمنين ، وأنهم غير عقلانيين . وقد استغل التطبير إعلامياً لتشويه سمعة التشيع وساهم في إيقاف الكثير من المسلمين عن التفاعل مع المذهب او الدخول فيه .

الدائرة العالمية / وهي دائرة محايدة وعقلانية ويغلب عليهاالتسامح الديني وتفهم الظواهر والشعائر الدينية والتعاطي معها من منظور قانوني . كما ان لها اجهزة مخابرات متمكنة وخبيثة لا تتورع عن استخدام وتوظيف بعض المظاهر في برامجها وسياساتها الإعلامية المضادة في المناطق التي تعمل فيها .

لا تتوقف ظاهرة التطبيرلا عن نفسها ولا عن توليد ما يشبهها وهي تتعرض له للاهمال من قبل مراجع الدين والحكومات؛ أي من الفقه والقانون .

ربما ينتظر الفقه والقانون  نتائج التدافع الاجتماعي ، وما سيؤول اليه الموقف بعد التفاعل الثقافي والفكري والديني بين أنصار التطبير والرافضين له .

من الافضل اتاحة الفرصة للنخبة المثقفة والخطباء الواعين ، والأعلام الهادف الموجه . في نقد هذه الظاهرة والعمل بالضد منها . حينها ستتشجع المرجعية المبتلاة والدولة الخائفة على تحريم التطبير ومنعه قانونياً في الدول الشيعية .

اما الرهان على الفلسفة والأقناع لوحدها الى نهاية الخط فغير نافع ولا منتج في ظل الطبيعة التاريخية للاديان والمذاهب التي تنتج الفلسفة الخاصة لكل ما هو عقلاني وغير عقلاني في الدين .

تبقى لي نصيحة( براغماتية )للأحزاب الاسلامية الشيعية التي لها موقف تنويري واعي بالضد من التطبير ، ان لا تذهب بعيدا جداً في الأنفراد بالموقف الرافض لهذه الظاهرة ، ولا تتورط في  دفع الثمن لوحدها ، والأفضل ان تتيح الفرصة للفعالية الثقافية والمنبرية والمدنية والكتابية العامة لأخذ زمام المبادرة . فهم ليسوا اقوى من المرجعيات الدينية الكبيرة التي تؤيد ،أو تسكت ، أو تجامل ، بدواعي الحفاظ على الوحدة ، وعدم اثارة اللغط ، او فقدان المقلدين .

على الحزب ان يحرص على ناخبيه ، كما تحرص المرجعية على مقلديها في معمعة التطبير هذه .

وتبقى فلسفتي الخاصة عن ثنائية  رأس الحسين وذراع الشمر فلسفة تعمل مع النخب التي تقرأ وتفهم . اما من لا يقرأ ولا يفهم فليس له إلا ( شرطة خامنئي ) .

علق هنا