أشباح القبلية

مجرد التفكير بقانون للعشائر والقبائل في العراق هو نكوص خطير في الحياة المدنية، وهو تعبير عملي عن التراجع الكبير في تطور النظام الاجتماعي العراقي خلال قرن.

لم يكد القرن الماضي يتجاوز عقد انتصافه حتى أطاح المجتمع بقانون سابق مماثل أراد تكريس العشائرية في العراق. بعد هذا بسنوات تخفّفت الحياة من معظم التقاليد العشائرية، وكان العقد السبعيني حاسماً حين تخلت العشائرية نفسها عن معظم (سننها) البالية، وكان تحرير المرأة الريفية من ربقة (الفصل العشائري) الانجاز الأبرز في هذا المسار. لم تحمِ الدولة ولا قوانيها ولا سلطاتها المرأةَ من تلك العبودية لكن تمدّن وتحضر المجتمع هما ما أنهيا إذلال المرأة واستخدامها كسلعة مقايضة في حسم خلافات الرجال القبليين ما بينهم.

في المرتين (في القرن الماضي والآن) ظهر قانون للعشائر بموجب إرادات سياسية كانت تعطي اعتبارات للشيوخ القبليين مقابل الاستخدام السياسي لهؤلاء الشيوخ.

ما بين المرتين، وفي العقد الثمانيني، تفتقت عبقرية الدكتاتورية الحاكمة آنذاك عن فكرة إعادة الاعتبار للعشيرة والقبيلة. كان منطق الحرب هو الدافع لذلك التنشيط المفاجئ، لكنه كان تصرفاً لم يفضِ إلا إلى دعاية تلفزيونية كان بعض شيوخ القبائل ومن حسبوا عليهم مهرجين فيها، لا دور لهم في تعبئة قبائلهم. كانوا يسخرون من الدكتاتور مقابل رزم مالية، وكان الدكتاتور يستغل هؤلاء المهرجين ليسخر ويغيظ بهم خصومه موحياً بالتفاف شعبي حوله، فيما كانت التعبئة وجرُّ مئات الآلاف إلى ساحات الحرب تجري بوسائل أخرى لا صلة لها بالقبيلة والعشيرة. 

لا في تلك الأيام ولا في هذه توجد أيّةُ سلطة تعبئة سياسية لشيخ قبلي على أفراد قبيلته. كان الدكتاتور يدرك هذا وكان يعرف بالحدود التي تمكن بها الإفادة من هؤلاء الشيوخ، لكن صدام ضلل حتى خصومه الذين جاؤوا بعده وتوهّموا بسلطات يتمتّع بها الشيخ داخل مجتمعه القبلي.

مشكلة القانون الجديد أنه يسعى لخلق فرص تنشأ فيها هذه السلطة القبلية التي لا وجود لها. هذه هي مشكلة التشريع الجديد غير المرئية.

المشرِّعون المنوطة بهم مسؤولية ترسيخ مؤسسات الدولة واعلاء سلطة القانون يتخلون عن هذه المسؤولية، لاعتبارات انتخابية، ويعطون غطاء شرعياً لخلق تشريع خارج سلطة الدولة وقوانيها. 

الامتيازات التي تأتي للشيوخ ومن يمثلونهم هي أيضاً تعمل على تكريس سلطات خارج سلطة الدولة. 

واقعاً سيكون لنا قانونان، قانون الدولة وقانون القبيلة، مقابل سلطتين، سلطة الحكومة وسلطة القبيلة. المشرّعون وقواهم السياسي النافذة سيتحملون مسؤولية خطيرة تجاه دحر التمدن والتحضر وتجاه مشكلات إضعاف دور الدولة والقانون كعقد اجتماعي مبرم بين الجميع بولاء كامل للدولة. الأخطر في كل هذا أن فرص الانتهاء من الطائفية باتت سراباً؛ القبلية تعزيز أتعس للطائفية.

كان الأمل هو في سرعة التخلص من الطائفية بينما ننشغل الآن بتفادي أشباح القبلية.

قال الجواهري: 

يا دجلة الخير قد  هانت مطامحنا

حتى لأدنى طماح غير مضمونِ.

علق هنا