ترامب والعراق الليبرالي

بيد ان المفارقة الأهم في مفهوم الحرية الليبرالية هي قدرتها على خلق اتجاهات جديدة وبحسب قوة رأس المال كلما اقتضت مصلحة ذوي السلطة والنفوذ ذلك، وهذا ما يشير له خطاب الرئيس الأميركي الجديد الذي صنعه رأس المال المنتفع من الحرية والملكية والمسؤولية غير الملتزمة، فهو الملياردير الذي استفاد من حرية حركة رأس المال للخلاص من آثار الركود ومن خطر الافلاس في الأعوام 1989، 1991، 1992، 2008 ، ففي كل مرة يصبح غير قادر على الوفاء بالتزاماته تجاه قروض المصارف، ويصل حافة الافلاس فيلجأ لمزيد من القروض والتسويات المثيرة للجدل بهدف تأجيل مدفوعات الفائدة فينجح في تعزيز أعماله التجارية اعتمادا على أساليب رأس المال في النفوذ والتأثير، وهو أيضا الملياردير المنتفع من العولمة حين استثمر في تاج محل بالهند عبر تمويل بناء الكازينو الثالث له بكلفة مليار دولار باستخدام السندات

 العالية.  

ومثلما يكون السوق نظاما تلقائيا على وفق الرؤية الليبرالية، فان الظهور التلقائي للقوانين على وفق هذه الرؤية، ما هو الا رد مواز ومقابل لهذا النشوء يتوجب على فقهاء القانون التعرف على مزاياه جيدا والاعتراف بها، وبالتالي وضع التشريعات على وفق حركته التي يتحكم بها رأس المال.

هذا الاتجاه الفكري الذي يبشر به الليبراليون الجدد يراد له أن يؤسس للنظام الاقتصادي والسياسي في بلادنا في ظل التعمية التي سببها غبار الفوضى الخلاقة خلال السنوات الـ 13 الماضية، ليلتحق في ركب البلدان التي يديرها رأس مال الشركات التي تحكم

 العالم.

بيد ان مجيء دونالد ترامب الذي لا يعرف له حتى اللحظة توجها محددا على ضوء ما بشر به أنصار العولمة أو ما ينادي به الليبراليون الجدد، كشف هشاشة الفكر الذي صنعته الشركات التي تحكم العالم، فالرجل انعزالي وجهوي فيما يخص المصالح الاميركية الداخلية، وهو عولمي فيما يخص المصالح الأميركية في الخارج، وقد عرف بدعواته الحمائية للاقتصاد الأميركي من بعض سلبيات العولمة الاقتصادية والسياسية ، انطلاقا من ايمانه بأن مجرد سحب بعض الأموال الأميركية من أسواق الدول الكبرى، سيتسبب بانهيارات بنيوية في اقتصاديات تلك الدول وفي الاقتصاد العالمي عموما، ما سيجعل من الولايات المتحدة مركزا ماليا لادارة اقتصاديات العالم عن بعد وبالتالي احتكارها للقرار الدولي، فضلا عن دور هذه الأموال التي تساهم برفع معدلات التنمية في تلك الدول وتمنحها ديمومة الرفاه التي تعتمد اقتصاد السوق الاجتماعي على حساب الضرائب التصاعدية التي يدفعها المستثمر الاميركي، مستغلا تزايد معدلات البطالة وتراجع معدلات النمو في الولايات المتحدة، وهذا ما يفسر قلق دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها المانيا من فوز ترامب بموقع الرئاسة 

الاميركية.

وبناء عليه فاننا ازاء متغير فرضته التقاطعات في المصالح الاقتصادية وليس سواها، متغير أسقط أقنعة الشعارات الرؤيوية التي كانت تسوق نحو بلداننا بوصفها اتجاهات فكرية، اذ ما عادت العولمة صالحة في نظر أكثر الليبراليين تطرفا، ومثلما كان الاندماج الجهوي أمرا جيدا في الاتحاد الأوروبي، الى مرتبة التابو الذي لا يقبل المناقشة ، فان الحمائية اضحت مطلبا في أعتى نظام اقتصادي بشر بليبرالية السوق ، الأمر الذي يدعونا لاعادة النظر في الاتجاه الذي يسير به بلدنا خصوصا وان اقدامنا ما زالت في بداية طريق اقتصاد السوق الراسمالي ولم تنزلق كليا، اذ لا وجود لأي منطق يبرر أن ينساق العراق وأمثاله من الدول لمفهوم العولمة أو ليبرالية السوق كليا ، في ظل هذا التراجع نحو الجهوية بعد أن اكتشف اليمين المتطرف في الحمائية والاندماج الجهوي ما يشكل مصدرا للنمو والتشغيل، وبعد أن لفت ترامب ومن معه نظر المثقف العربي الى ان العولمة لن تؤدي الا الى البطالة 

والافلاس!.

ان من الغريب حقا أن توضع الأضداد في موضع فكري واحد، فمن كان يدعو الدول النامية الى ليبرالية السوق يرفع الان شعار «الحمائية» التي تعد تعبيرا حقيقيا عن سلطة الاكراه والتي تشكل تضادا مع مفهوم الحرية الذي تبنى عليه الليبرالية.. ومن كان يدعو للعولمة صار يبحث عن التبريرات التي ترى في الطابع المنظم للسوق والتبادلات داخل أوروبا ما لا ينسجم أو يشبه الطابع غير المنظم للسوق العالمي. 

والواقع ان المفارقة لا تقف عند موضع الاضداد  بين الاندماج الجهوي والعولمة ، ولا في موضع آخر بين الحرية والحمائية في اطار المفاهيم الليبرالية، وانما في الفكر الذي يصنعه رأس المال ويسوقه بأغلفة دعائية للمثقف في البلدان النامية ، وهذا الأخير يجتر الطروحات كما يجتر المبهورون بمحال الماكدونالدز سندويتشات الهمبركر الاميركي وكما يتباهى المستهلك بسيارات الفيراري وتقليعات الموضة، فهو مشغوف بالرؤية الدعائية ومدمن على فكرة نهاية التاريخ التي بشر بها فوكوياما. 

 

 

علق هنا