غربة شهريار : شهرزاد



-    يا ألهي . كم هي صغيرة هذه الحياة ؟

سرعان ما تجد نفسك في فلك لا متناه تدور ، تدور ضائعاً ، ضائع فيه رغم كل محاولاتك للخلاص منه . فجأة ! تخطفك مصيدة شباكها من حديد ، تصيدك رغم أنفك ، تقيدك ، كما تقيد خيوط نسيج شباك العنكبوت ، تشعر حينها بأنك لا شيء ، وشيئاً فشيئاً تدنو منيتك منك ، قالها شهريار ، وهو ينظر من شرفة قصره المطل على أحد شوارع بغداد ، تنهد ، وقال كأنه يتنبأ بشيء خرافي :-

-    ما أروع أن يكون البشر كائنات خرافية عملاقة . . . لفضلت أن أكون فراشة .

ابتسم ، ونظر إلى أعلى ، وجد السماء ، سماء بغداد صافية ، صافية وهادئة ، هادئة رغم كل الدخان القادم إليها ، والذي يطوف حولها بشكل دائري حتى يرتفع إلى ما فوفقها ، يحجب عنها الشمس ، ويلف سمائها الساكنة بعباءته السوداء ، يلفها بمهارة ، ويظل يتجول في شوارعها الأنيسة ، شارعاً شارع ، أبي نواس ، السعدون ، الجمهورية ، الرشيد من الباب الشرقي حتى باب المعظم ، المتنبي ، غازي ، عشرين المغرب ، حيفا ، محمد القاسم ، وشارع البنات – شارع النهر ، يحوم ، يحوم ملتفاً لافاً كل شيء وكأن هذا الدخان الغريب عن جسدها البغدادي البض الطازج النظر يريد ابتلاعها ، ابتلاع جسد دار السلام كلها ، ابتلاع حياتها ، حياتنا كلها بلقمة واحدة ، أضاف شهريار بصوت مسموع :-

-    إما أن أكون فراشة وكل البغداديين من حولي ورود . جاءه صوت من الغرفة المجاورة لشرفته ، صوت نسائي خلاب تكحل بحة بغدادية عذبة ، معقباً " الصوت " بمزاج لاذع  على كلام الأمير :- 

-     شهريار ! أنت فراشة وأنا زهرتك ، زهرتك التي تمتص منها رحيقاً عذباً عسلاً رائقاً . أتسمعني ؟

أجابها ، والأمل يمازج نبرة صوته :-

-    نعم . أسمعك يا شهرزاد ، فإن ما في ممتلئ بنورك ،  ما بي يستمد نوره من رحيق ضياء محبتك الذي يشع من خدودك البيض التي تشبه شمس بغداد . . . شهرزاد . يا حبيبتي . يا بغدادي أنت . كل ما في أنت .

يسمع رقرقة ضحكتها ممزوجة مع صداح فيروز ، يستطرد قائلاً :-

-    يا بغدادي . يا دار سلامي . يا شهرزادي . صار كل ما أعيشه مأساة ، مأساة حقيقة ، كابوس ، كابوس أسود ، ك . . . 

قاطعته قائلة :-

-    ما بك يا سلامي ؟

أبتسم شهريار بأسى ، وسرح محدقاً أمامه في خراب بغداد ، بغداده التي كثر فيها السلب والنهب والاقتتال والازدحام والضجيج والخوف والذبح والمفخخات واللاصقات والكواتم ، والاحتراب والأحزاب . صار يرى بغداد خربة ، بلا سلام ، سلامها الذي يرفرف في قلوب أهلها ، فيجيبها قائلاً بمرارة :-

-    غربة . أنه الإحساس بالغربة ، ما أعيشه – الآن – يا شهرزادي . غربتي . 

قالها شهريار بلوعة وبكى :-

-    نحن غرباء .

-    رغم كل هذا المجد ، ومع كل هذه الكبرياء ، أجد نفسي غريباً ، أشعر بالغربة ، وأشد ساعات حياتي غربة تلك التي أكون فيها مع ناسي ، وأهلي ، وداخل بغداد ، بغداد عاصمتي ومدينتي . لذا . تمنيت لو كنت فراشة ، فراشة تطير بأرتعاشات عشوائية راقصة من زهرة إلى زهرة ، ومن حديقة لأخرى ، كفراشة أذهب صوب الضوء ، ضوء الحياة ، حياتنا البغدادية الساحرة .

ينظر شهريار ناحية السماء ، سماء دار السلام ، ليقول :- 

-    نحن فراشات غريبة تبكي بصمت عندما انطفأت كل شموس بغداد بغتة ، وكأن هذه الشموس شموعاً لأرواحنا . . . 

قاطعته شهرزاد بمودة :-

-    أنا فراشتك التي عزفت على أوتار قيثارتها أعذب ألحانك الحية  . ألحاناً حيةً خالدة . . .  

قاطعها معلقاً بأسف :-

-    ألحاناً حزينةً دوماً .  

عارضته بمرح  :-

-    بدون حزنك يا شهريار الحياة نموت ، نذبل ، نذوي . . . 

قاطعها معقباً بحدة :-

-    شهرزاد . ما نعيشه وتعيشه بغداد الآن عزف نشاز لحصاد ما زرعت . نعيش حصاد كل ما زرعناه في حياتنا الماضية .

تصغي شهرزاد بانتباه كبير :-

-    حزننا الذي يسكننا منذ زمن بعيد جاء الآن ليحصدنا ، يحصدني ، يحصد كل ما بنيت ، كل أماني  وطموحاتي .

تعقب شهرزاد بجدية :-

-    حقاً . كأننا فراشات غريبة ترقص على ضوء شمعة القدر ، قدرنا ، قدرنا العراقي ، نرقص غرباء غربتنا فوق لهيب حياتنا الحزينة . نرقص حزانى غربتنا عن بعضنا . . . 

يقاطعها شهريار بسؤال قاطع باتر مثل منجل حاد بيد القدر الجادة في حصدنا زراعاً :-

-    أتشعرين بالغربة مني يا شهرزاد ؟

أجابته إجابة باترة حازمة صادقة صادمة مثل منجل القدر وقد جمعت كل خساراتها وأحزانها وفقداناتها وغربتها وهي تنظر بعينين بغداديتين حلوتين صوب بغداد بدجلتها ، دجلة الذي يمر من أمام شرفتهما هادراً بالخير :-

-    نعم .



علي السباعي

علق هنا