حين يكون المجاهد الذي قضي نصف عمره في المقاومة رجل دولة ناجح ... قاسم الاعرجي نموذجاً

بغداد- العراق اليوم:

اشكالية كبيرة تلك التي تواجهها الحركات الثورية في العالم بأسره، ومنذ انطلاق هذه الحركات والى يوم نجاحها وتحقيق اهدافها بوجه الانظمة السياسية الفاسدة، او السلطات الطاغية، من تلك اللحظة الاحتفالية تبدأ تلك الحركات - التي عادةً ما تكون ذات شعبية كبيرة - بتطبيق ما قامت من اجله، او تسعى لذلك، لكنها ستواجه الواقع الذي سيصدمها بصعوبة تكيفه، او تطويعه، وهي التي لا تعرف معنى التأني، والبيروقراطية، وسعة الاستيعاب، والاختلاف مع الاخر، ضمن حلقات الحكم والسلطة. فأبجديات الحركات الثورية لا تعرف هذه المفاهيم، لأنها منبثقة، بل وقائمة اصلاً على فكرة العداء مع الاخر (السلطة)، ورفضه بالمطلق، ومن ثم مواجهته ومقاومته بشتى الطرق المتاحة، فكيف تقبل مثل هذه الحركات ان تواجه ذات المآل الذي قامت من اجله؟

وقد لا يعني ان ما سيواجه الحركات الثورية الحاكمة، هو معارضة مشروعة او ذات مطالب واضحة، ولكنها ينبغي ان تتعامل مع هذه المفردات وفق رؤية الواقع الجديد، لا النزوع الثوري المتأصل فيها، والذي لا يرى بدًا من المواجهة، مما يعني تحول السلطة الى بؤرة توتر، لا مؤسسة ضبط واستيعاب وبناء، وهذه الاشكالية غالباً ما تؤدي الى اشعال حروب اهلية او داخلية في البلدان التي تصل فيها الثورة الى السلطة، وما حدث في ليبيا مثلًا خير دليل على ما نقول.

في المنقلب الاخر، يبدو ان الحركات الثورية التي تكتسح المشهد السياسي اذا ما اتيح لها المنافسة،  لا تقدر حجم مسؤولية السلطة والحكم، وادارة الدولة، حيث تبقى بعض الجماعات تتعامل معها وفق منطق الجماعة او الفئة الثورية، لذا سرعان ما تسقطها التجربة صريعةً لتلك الاخطاء والخطايا، وما تجربة حركة حماس في فلسطين الا مثالاً على ذلك، فهذه الحركة الثورية الصلبة، التي نجحت في كونها حركة مقاومة اسلامية ضد الاحتلال الاسرائيلي الغاشم، لم تنجح للأسف في كونها حركة تحكم في فلسطين، فقد اخطأت اخطاء فاحشة تسببت بكارثة لا يزال الفلسطينيون يدفعون ثمنها باهظاً، سواء من فقر وجوع وحرمان أو  من دماء غزيرة جرت.

وهكذا في بعض البلدان المشابهة التي وصلت فيها حركات ثورية ذات توجهات اسلامية الى الحكم، فكادت تنزلق لحروب اهلية.

 وبالمقابل فهناك تجربة الجمهورية الاسلامية في ايران حيث يمكن اعتبارها مثلًا ناجحاً عن تحول قوى المعارضة المتشددة الى نظام حكم انتخابي رفيع، حيث نجح السيد الخميني واتباعه المعارضون المجاهدون بالتحول والارتقاء  بلياقة وهدوء ومنطق من حركة ثورية معارضة لأشرس ديكتاتورية في ايران والمنطقة، الى نظام انتخابي برلماني حر، يمتلك من المرونة والمسايسة والتفاوض ما أدار  به رؤوس الأعداء، ناهيك عن صموده لأربعين عاماً بوجه امريكا وحلفائها، الذين لا زالوا يحاولون تدمير هذه التجربة الثورية الناجحة  في الحكم، وكذلك الحال في كوبا، تلك الدولة التي شهدت قبل ستين عاماً ثورة تحررية شيوعية مسلحة لا تزال صامدة بوجه الحصار الامريكي، وغيرها من التجارب الثورية الاخرى، سوآءا الناجحة او تلك التي اخفقت في التجربة. فما هو معيار النجاح والفشل في كلا التجربتين؟

نعتقد ان المعيار الاساس في تقييم التجربتين، هو مدى الاستعداد الذاتي والموضوعي لهذه الحركات في قبول الآخر، والتكيف مع طبيعة التحولات التي تطرأ على بنيتها الثورية المتسمة بالشدة والسرية والحسم السريع غير المستند لأي حسابات سوى الموقف الميداني، فيما ان هذه العوامل تصيب الدولة في مقتل كما يقال.

وفي التجربة العراقية مثلًا، نرى ان الحركات الثورية خلال الخمسين عاماً الاخيرة كانت شيوعية واسلامية في الغالب، إذا ما استثنينا التجربة الكردية، وخصوصيتها القومية، وقد كانت لهذه الحركات الثورية والجهادية تجربة مريرة مع الأنظمة الدكتاتورية حيث قدمت لأجل ذلك تضحيات يقدسها الشعب العراقي، ويحترم تلك الدماء الزاكيات التي سالت في سبيل الخلاص من نظام متخلف دموي كالنظام الصدامي.

لكن للأسف، ما ان وصلت هذه الحركات للسلطة حتى سقط بعضها بالقاضية، بعد ان فشلت في تحويل شعاراتها الى برامج عمل، وتحرير خطابها الثوري من عقدة الاخر، والتحول الى خطاب دولة، خطاب مسؤول وعقلاني ومنفتح، يحسب لمصلحة الدولة حساباً، فيقدمها على كل المصالح، بما فيها مصلحته الحزبية والعقيدية.

وبالحديث عن الحركات الاسلامية في العراق، فإنها بصراحة لم تنجح في التخلص من فكرة الثورية المدمرة للسلطة، حتى وان شخصت بعض مراكز القوى فيها هذه الآفة وهذا الخلل، الا ان النفس الثوري كان الاعلى فيها، وراديكالية البعض ادت الى فشل التجربة في ان تتحول لنموذج يحتذى به.

طبعًا، هذا ليس تعميمًا ولا تبريرًا لما آلت اليه الاوضاع لكنه رؤية محايدة تطرح كجزء من تشخيصات عديدة لأسباب نكوص الواقع.

ومع ذلك فإن التجربة على مرارتها، لا تخلو من التماعات ونجاحات هناك، فالموضوعية تفعل فعلها كما قلنا في الفشل، لكن الاستثناءات الفردية والذاتية قد تتغلب عليها إذا وجدت الشخصية القائدة والقادرة على التحول لمنطق الدولة، وان تغادر عقلية الثأر او تحويل السلطة لأداة وصل مع الاشتراطات الثورية.

وهنا يمكن لنا الاشارة بلا تردد لتجربة وزير الداخلية الحالي قاسم الاعرجي الذي تجاوز هذه العقدة، واظهر بقوة ميلًا صوب رجل الدولة، وبدأ لتطبيق ذلك عمليًا، الامر الذي شكل حضوراً وزخماً للحركة الثورية التي بدأت تعي دور رجل الدولة ومنطقه، وكذلك سبب ازعاجاً واحراجًا للأخرين لا يروق لهم ان يتحول خطاب هذه الحركات من مرحلة الهدم الى مرحلة الدولة والبناء.

ان قاسم الاعرجي اسم لا يخفى في ساحة المواجهة مع البعث واذنابه، ولا بمكن المزايدة عليه، فهو رقم صعب من ارقام معادلة العمل الثوري العراقي المجاهد، الا انه اليوم رقم أصعب في معادلة رجال الدولة الذين يتجاوزون عقد الامس، وينطلقون باتجاه تحويل السلطة لأداة بناء الدولة، لا تعزيز الثورة.

فأهمية الثورة تكمن في انها لحظة يمكن معها الشروع ببناء الدولة، اما تأبيد هذه اللحظة فهو خراب للدولة والثورة معاً.

ختاماً هل يمكن لتجربة قاسم الاعرجي التي خلع فيها بدلة الجهاد الخاكية، وارتدى بدلة " الدولة" الحكومية، والديمقراطية والادارية، ان تكون مصباحاً وهاجاً ينير الطريق لرفاقه واخوته المجاهدين والثوريين الذين سيأتون بعده الى محطات "الدولة" بعد ان غادروا ميادين الوغى وساحات الجهاد مرفوعي الرأس، وبعد ان اثبتوا ببراهين الدم والتضحية والفداء شجاعتهم الفائقة.

علق هنا