وقفة مع جدل “التسوية التاريخية”

في مرحلة ما بعد داعش ووسط هذه الفوضى الملوّنة بالخطابات الطائفية والعنصرية لابد من مبادرة جادة تلم شيئا من شتات العراقيين، المبادرة الجادة بحد ذاتها شيء ايجابي حتى لو لم تنجح، فلاصحابها على الاقل شرف المحاولة.

لكن وبصراحة مفرطة فان طريقة السياسيين بالمبادرات اثبتت عقمها، وربما نكرر انفسنا بفشل آخر ان تركنا خطوة من هذا النوع لامزجة الساسة وهوسهم بالحصول على مكسب هنا او هناك. من هنا فان الكل مدعو لتقديم تصوراته عن مرحلة ما بعد داعش والسياسيون لا ينبغي ان ينالوا فيها اكثر من كونهم جزءا مهما.

تجاربنا السابقة تؤكد وجود خلل جوهري في محاولات التسوية ومشاريع المصالحة الوطنية، لذلك ليس من المنطقي ان نعد لورقة تسوية دون الاخذ بعين الاعتبار فشل التجارب السابقة، وان لا تكون تلك المحاولة تكرار لتجارب مكررة وعديمة الجدوى.

فربما لم يشهد بلد في العالم غير العراق انعقاد هذا الحجم الهائل من المؤتمرات التي تهدف الى "المصالحة الوطنية"، صرفت مبالغ بأرقام فلكية من اجل تلك المؤتمرات، القيت مئات الخطب والمواعظ في سبيلها، والقي ضعف ذلك من القصائد الداعية للتآلف والتقارب، قبّلت الرؤوس وطيبت الخواطر هكذا على الاقل نشاهد ما يحصل فيها من خلال شاشات التلفاز، لكن الملفت انه وبعد كل خطوة او مؤتمر للصالحة الوطنية ندخل في نفق مظلم من الصراع المكوناتيّ ذي النكهات الطائفية السياسية وكأن تلك المؤتمرات تؤدي دورا عكسيا، كأنها ليست الا حلبات لـ"المصارعة الوطنية"!

اطلعت كغيري من المتابعين على ورقة مبادرة التسوية التي نشرت قبل فترة، وقد استوقفتني جملة من الفقرات المثيرة للجدل في تلك المبادرة، من اهمها ما جاء في الفقرة الخامسة وهو كما يلي:

(أسس التسوية: لضمان تسوية حقيقية ممكنة وراسخة ومورد قبول الجميعٍ لابد من الاستناد الى الأسس الآتية:

1- التسوية الشاملة وليس التنازل أحادي الجانب. 2- مبدأ اللاغالب واللامغلوب. 3- تصفير الأزمات بين الأطراف العراقية).

من وجهة نظر شخصية اجد ان هذه الفقرة كفيلة بنسف اهداف وجدوى المبادرة برمتها، فمبدأ "تصفير الازمات بين الاطراف العراقية" هو المدخل المثير للجدل الذي يعيد انتاج الجهات والواجهات السياسية والاجتماعية التي جعلتنا ندور بدوامة من الفوضى! تصفير الازمات مع من؟ ولصالح من؟ ومن ساهم بهذا الخراب المجتمعي والامني كيف يمكن ان يتعظ اذا تمت مكافئته بتصفير الازمات؟! ان هذه الفقرة تمثل طعنة ليس فقط لضحايا العراقيين من جميع المكونات وهم كثر بل ايضا رسالة احباط لجميع العراقيين الذين اوقفوا تمدد داعش واخرجوها من الاراضي العراقي خصوصا من ابناء المكون السني الذين دفعوا اثمان باهضة بسبب حربهم ضد داعش وتحملوا الاستهداف الامني والاغتيال الاجتماعي والتخوين. نحن نرمي دمائهم بالمياه هدرا اذا اعدنا الواجهات السياسية للارهاب الى طاولات الحوار من جديد واستبعدنا الشخصيات التي ناضلت من اجل العراقيين.

وبالمجمل العام حول مبادرات التسوية، فإنه لا يفترض ان تعد اوراق التسوية وراء الكواليس، ثم يجتمع السياسيون امام وسائل الاعلام من اجل التوقيع عليها في مشاهد استعراضية. ان مرحلة ما بعد داعش تتطلب حزمة قرارات من الدولة على الاقل او خطوة في اطار اشمل تؤسس لها النخب بما في ذلك السياسيون باعتبارهم جزءا من المشهد في نهاية المطاف. ان المبادرات التي تسعى لتصحيح الاوضاع لا تكتب بهذه الطريقة لكي يتم تسريبها وكانها قائمة مرشحي وزارة.

علق هنا