الزهيري …رجل في ميادين الفكر والسياسة والدين

بغداد- العراق اليوم:

عبد الكريم العيداني

مرةً كنتُ في النجف الأشرف، حيث موضع الحوزة العلمية قرب مرقد الامام علي ابن ابي طالب عليه السلام، وهناك كنتُ احدث رجل دين في منطقة الحويش وقد ارتدى عمامة بيضاء ناصعة، وينوء بحمل عدد من امهات الكتب، وعلى حين غرة سألتهُ بخبث: مالذي يجنيه رجل يفني عمره هنا، بين هذه الازقة الضيقة، وماذا ستمنحه هذه الدروس التي لا حد لتوقفها؟.

نظر الي محدثي بحنو ، واجابني بصوفية وزهد لا ادري : انها لذة لا يُدركها الا من عاشها يا ولدي.

من هذهِ اللحظة، وانا اعرف ان رجال الدين اولئك المنغمرين بفضاءات الدرس الديني والذائبين في اعماق النجف بعمائمهم، يمتلكون شيئًا لن ندركه، مالم نجرب مثلهم هذا النوع من الحياة، حيث المواظبة على الدرس من جهة، وشظف العيش من جهة، وقوة تحمل وصبر ومطاولة من جهة اخرى. 

وعلى الرغم من ان الكثير من استاذة الحوزة وفضلائها يمتلكون مفاتيح الثروة والجاه والسلطة، الا انهم يرفضون ذلك بتجرد عجيب، وكأن اللذة التي حدثني عنها صاحبي تكمن هنا. من هولاء الذين عرفتهم ويمكن الحديث عن تجربتهم بتواصع واقتضاب لا منطقي، لكنه لضرورات الكتابة في الصحافة فقط، هو الشيخ عبد الحليم الزهيري.

فمن عرف الشيخ الزهيري عن كثب سيكتشف اي معدن من الرجال هو، والشيخ عبد الحليم بن الشيخ جواد كاظم الزهيري، من مواليد العام ١٩٥٥، عرفته حوزات النجف منذ بواكير صباه منتقلًا بين دروس اعاظم مراجعها وفضلائها، منكبًا  على الدرس، متفرغًا لشؤون البحث والمذاكرة، ومع نبوغ كان يحسد عليه منذ مطلع شبابه الا انه بقي الاكثر تواضعًا بين اقرانه بشهادة اساتذته ومن جايله واقترب منه.

ثقة المرجع ويده !

في النجف ثمة اعراف لا تتبدل ولا تتغير، ثابتة بثبات الحوزة ودروسها، فهناك في كل حلقة درس عند مرجع او استاذ ستجد هناك طالبًا يمتاز عن اقرانه بقوة الحضور وبكاريزما مميزة، وذهنية متقدة، مثل هولاء الطلبة سيتحولون فيما بعد الى مقربين من هذا الاستاذ او المرجع، وسيجدون تشجيعًا ودعمًا لهم ولقدراتهم، نظرا لثقة المرجع والاستاذ، ان هذا الطالب سيكون ذا شأن علمي في المستقبل، ومن هنا يكلف هذا الطالب او ذاك بمهام تعليمية مرة، واخرى لا تعليمية ايضاً.

ولعل من المهام التي يكلف بها هذا الطالب، هو التبليغ الديني، حيث يوفد الى تلك المدينة او تلك القصبة بل وحتى بعض الدول مكلفًا بالتبليغ الديني عن هذا المرجع او ذاك، كما عرفت  العلاقة بين النجف الاشرف وحوزتها العلمية ومرجعيتها الدينية العليا، والسلطات المتعاقبة في بغداد، سواءًا اكان في العهد الملكي او ما تلاه من العهود الجمهورية، ما خلا فترة حكم البعث الجائر، رجالًا من رجالات الحوزة الذين مثلوا حلقات وصل بين المرجعية من جهة والسلطات من جهة اخرى، او لنكن موضوعيين اكثر، مثل هولاء الرجال وجهات نظر المرجعية ونقلوها سلبًا اكانت او ايجابًا، واستمعوا لخطابات الساسة ونقلوها ايضًا للمرجعية الدينية.

هولاء الوسطاء الحكماء، ذوو البصيرة والعمق، وقوة الحضور وفاعلية الخطاب والتأثير، ظلوا بمحض ارادتهم بعيدين عن الاضواء، وقد منعهم زهدهم وثقلهم عن الادعاءات حتى ليكاد المرء لا يعرف تلك الادوار، حتى يبحث بعمق فيذهل من عظيم ما اداه هولاء الوسطاء الامناء، وكم كانت المسؤوليات التي تحملوها جسامًا وفي ظروف اشد سوداويةً وظلمًا من الآن، وامس. ولعلنا لن نبتعد عن ذكر الشيخ علي الشرقي والسيد محمد الصدر والسيد طالب الرفاعي والشهيد مهدي الحكيم والشيخ كاشف الغطاء والشيخ النعماني وغيرهم من رجالات الامانة والحضور الفاعل في المشهد المرجعي - السياسي.

الزهيري : مبلغ مواقف المرجعية وناقل مواقفها

ولعل مسيرة الشيخ المجاهد عبد الحليم الزهيري، مثال حي لدور ذلك الحوزوي الذي ينوء بحمل  ثقل تلك العلاقة، وارثها التاريخي، وهو الذي بدأ مسيرته الحوزوية في مرجعية السيد الشهيد محمد باقر الصدر، وتحمل اعباءًا قاسية في تلك المرحلة، فمرجعية الامام الصدر لم تك مرجعية فحسب، بل مزجت بين عملين في آن واحد، فمن جهة مهمة التبليغ الديني والارشاد، ومن جهة مهمة العمل الحزبي التنظيمي ايضًا، فكان الشيخ الزهيري احد الذين برعوا في الجمع بين العملين وتحمل من اجل ذلك اكلافًا  عالية للغاية، لكنه لم يقف، ولم ترعبه قسوة البطش الصدامي ولا عسف الديكاتورية البغيضة.

وحين اضطر لمغادرة العراق، بعد اغتيال الامام الصدر، كان الزهيري على سابق عهده، مبلغًا للدين وناقلًا للهم السياسي المعارض، متحركًا في اكثر من ميدان وساحة، فيين مرجعيات قم وحوزاتها الدينية، وما بين سوريا ولبنان، تقلب الرجل ناقلًا ساحته العلمية والسياسية، وسيطًا في كل اشكاليات العمل السياسي الشاق في الحركة الاسلامية، فهو ثقة الدعاة من جهة، وثقة مرجعيات الدعوة المختلفة من جهة اخرى، فكان الرجل الثقة الذي ما ان يكلف بمهمة تبليغية او نقل رسالة حتى تجده هناك متحديًا الصعوبات، متجاوزًا المثبطات انذاك وما اكثرها.

ومن عرف الشيخ الزهيري سيعرف عنه، صفتين اخريتين، اولهما الصمت الحكيم الذي يتمتع به، وابتعاده عن الضوء مع عظم ما يقوم به، وجسامة ما يؤديه كما قلنا. فيما سيعرف عنه ذلك العشق للدرس الحوزوي والجو العملي الذي تضفيه حلقات الدرس التي ينطلق فيها لسانه الصامت بمطارحات ومناقشات علمية تفصح عن مكنة ادبية وحضور علمي مميز.

بعد ٢٠٠٣ عاد الشيخ الزهيري وهو احد قيادات حزب الدعوة التسعة الذين يناط بهم قرار الحزب ومسؤولياته، وهنا بدأ الشيخ دوره الجديد، فخلافًا لكل السياسيين لم يطرح الزهيري نفسه لمنصب ولم يتقدم لصف قيادي، بل بقي ذاته الرجل الذي شد رحاله نحو النجف ليبدأ علاقة حكمت عليها الدكتاتورية بالانقطاع المؤقت، ولكنه استطاع بقوة حضوره وعلاقاته المتشعبة مع المكان ومن فيه ان يصل ما انقطع ويعيد حركته التنظيمية، وعلاقته مع مرجعية النجف الاشرف التي وجدت في الشيخ الزهيري حلقة وصل امينة وملبية لطموحاتها في التواصل مع مفردات العمل السياسي الجديد.

المفكر النزيه

بعد كل ما تقدم وتلك المكانة الرفيعة التي يحسده عليها العدو ويغبطه عليها الصديق، لم يعرف للشيخ الزهيري اي اقتراب من عالم الادارة وملوثات السياسة التي ابتلي بها الكثيرون بل كان الرجل مشغولًا على الدوام بهمه الحركي، ومنداحًا في فضاءات الفكر الاسلامي، منشغلًا لمشاريعه التربوية والاخلاقية، فضلاً عن نشاطه الاسلامي وحضوره في التجمعات الاسلامية الكبرى كمؤتمر العالم الاسلامي وعضوية العديد من المنظمات الدولية للشؤون الاسلامية.

ومما يخفيه الزهيري عن اقرب الناس اليه ذلك الولع الشديد بالعمل الخيري والارشادي، ولعل رعايته المستمرة لواحدة من اكبر مبرات تعليم وتأهيل الايتام في العراق شاهد صغير، لكننا لن نبوح بأسم هذه المؤسسة دون اجازة منه.

بقي أمر عظيم لم نذكره عن هذا الرجل الطاعن في الولاء للوطن،  أن أباه وعمه وأخاه هم ضحايا النظام البعثي، فقد أعدمهم صدام ، لا لجرم معاذ الله، انما لأنهم من حماة الدين، وخدمة الحسين، وعشاق الحرية ..

علق هنا