محبوب الجماهير

في أقل من عقدين انتخب الاميركيون ثلاثة رجال: الأول كان حاكماً لولاية تكساس، عُرف عنه خواؤه الثقافي وجهله بالسياسة الدولية والتاريخ، إضافة إلى أنه وقّع 200 حكم بالإعدام بصفته حاكماً للولاية.

الثاني كان النقيض، رجلاً اسمر من هارفرد، أقام حملته السياسية نحو مجلس الشيوخ، ثم الرئاسة، باعتباره يمثل عكس الانتماءات والسلوكيات، التي اشتهر بها سلفه.

ها هو الثالث من عالم المال المشتبه فيه، يرفع شعار العنصرية ويتبجّح بعِرقه الاوروبي "الاصيل"، ويعلن عداءه لسائر الضعفاء في بلاده من "الغرباء؟

سوف تظل الجماهير حول العالم أحجية متحركة ومتقلبة. تقع غالباً في سحر الخطاب، أو في عكسه. والغريزة الأولى في الجماهير هي غريزة السخط والغضب. لا ترى تظاهرة من أجل الرضى أو الوئام. أحرق طلاب فرنسا الجامعيون عاصمتهم وهم يندّدون بأهم رؤسائهم التاريخيين. وبعد احتلال العراق للكويت، خرجت جماهير غفيرة في الدار البيضاء وعمّان واليمن ومدن أخرى، تصفق لصدام حسين. وفي لا وعيها، أنها تنتصر للفقير على الغني. غير أن ثروة العراق من النفط والمياه والخصب وحجم الأرض وعدد السكان، تجعله أغنى من الكويت اضعافاً. ليس من شأن الجماهير أن تتأمل، أو أن تتساءل. تخرج وتهلل وتصفق، ثم تنتحب، بعد فوات الأوان. دونالد ترامب، الذي لم يحتل في حياته موقعاً حكومياً أو سياسياً، عرف كيف يقرأ انفعالات الجماهير. الصيف الماضي التقيت في واشنطن نائباً ديموقراطياً من أصل ايرلندي، وسألته عن توقعاته، يوم كان ترامب لا يزال في مربع الضعف، فقال: "إنني أخشى على هيلاري من السقوط، لأن الناخب في حاجة إلى من يسليّه ويثيره، وهي لا تمتلك هذه القدرة".

هناك زعماء كثيرون استطاعوا أن يستبقوا مشاعر العامة. أحد أهم هؤلاء كان الرئيس جمال عبد الناصر، الذي شعر بعد نكسة حزيران، أن الجماهير قد تنقلب على ولائها، فَعَمَد إلى تقديم استقالته، قالباً بذلك يأسها وحُزنها، إلى شعور بالتضامن معه والوقوف خلفه. ويروي محمد حسنين هيكل أن عبد الناصر كان يخشى أيضاً أن يتحرك الجيش ضده بإيحاء أو تحريض من المشير عبد الحكيم عامر، فجاء خطاب الاستقالة وكأنه اعلان من ثورة يوليو جديدة، وبدء مرحلة أخرى في حياة مصر، وتالياً، تجاوز آثار النكسة.

من المستحيل التكهن بمزاج الجماهير. سواء في الشارع أو في صناديق الاقتراع. تنقلب أحياناً بلا سبب، أحياناً لأسباب جوهرية. لكنها تخون دائماً تكهنات رجال النخبة والمثقفين والمفكرين، كما حدث في اميركا. قبل أن يخرج البريطانيون من اوروبا بواسطة الاستفتاء، كانوا، وهم من أرقى الشعوب، قد أسقطوا أهم سياسيين في القرن العشرين: ونستون تشرشل بعد الحرب مباشرة، ومارغريت تاتشر، اهم امرأة منذ الملكة فيكتوريا. في كلا الحالين، خابت التوقعات والدراسات. وفوز ترامب ليس اول مفاجأة الجماهيرية الأولى في النظام الديموقراطي.

في الواجهات اليوم، كتاب جديد عنوانه، بكل بساطة، "ريغان الأيقونة". ذلك هو ممثل الأدوار الثانوية في الافلام التي لم تعرف النجاح. لكن ريغان عرض آنذاك الاختلاف، وعرض القوة بمواجهة المسالمة التي اظهرها جيمي كارتر، باستثناء الهجوم الفاشل على ايران. ولم يفز ريغان بأكثرية ساحقة مرة واحدة، بل مرتين. يوم ظهر المرشح للرئاسة بيل كلينتون وهو يعزف لحناً حزيناً على "الترمبيت" مذكراً اميركا بفيلم "من هنا إلى الأبدية"، قلت في نفسي بكل سذاجة إن المعركة قد حُسمت له. فمنافسه جورج بوش الأب كان يطرح نفسه بغطرسة وعجرفة، مطلقاً ذلك التصريح الشهير: "كلبتي ميلي تعرف في السياسة أكثر من بيل كلينتون". لكن بيل كلينتون مثل رونالد ريغان، امضى ولايتين ناجحتين في سياسات الداخل والخارج. وغادر البيت الأبيض وبلاده تستحم في افضل ازدهار اقتصادي في ربع قرن. وفي ذكر محاسن اوباما، لا بد من الإشارة إلى أنه تسلم من جورج دبليو بلداً مفلساً ومحطماً وعلى شفير الانهيار، وهو إذ يستعد للرحيل اليوم، لا يزيد معدل البطالة على 5%.

تمنى افلاطون على مواطنيه ألا يتخلوا أبداً "عن حبل المنطق الذهبي". لكنه ما لبث أن اقرّ انهم عصابيون تحركم العواطف مثل الدمى، مرة بالمخاوف، مرة بالآمال. وقال إنه عندما يتعارض المنطق مع النفس، فإنها تمرض، "وعندما تتعارض النفس مع المعرفة، أو الفكر، أو المنطق، التي هي قوانينها الطبيعية، فهذا ما اسميه الجنون".

العالم لا يبنى طبعاً على أفلاطون أو جمهوريته. لذلك قال تاكيتوس إن "أكثر الرغائب وقاحة هي شهوة السلطة". متعة الجماهير، الانتصار على الآخر، سواء كانت تعرفه أم لا. لا شيء يقدم للغريزة البشرية ما تقدمه السلطة: لا المال ولا العلوم ولا الشهرة. أحلى ما قيل في هذا الباب، قول توماس جفرسون، شاغل المناصب العليا: "ما ان يحط الإنسان عينه على المنصب حتى يبدأ العفن في سلوكه". المشكلة ليست النقص في الكفاية، مهما كان مضراً، وإنما النقص في القيم الأخلاقية.

عذراً على الإكثار من المقتطفات. صامويل كولريدج قال "آه كم يعمي التحزب والغرض أعيننا، والضوء الذي يشع من المنارة، لا ينعكس إلا على الأمواج التي اصبحت خلفنا".

الامبراطوريات الكبرى والعقول الصغيرة، كانت مشروع صِدام هائل عبر التاريخ. لم يبدأ ليندون جونسون بأخذ الولايات المتحدة إلى فيتنام، لكنه اخذها إلى مذلتها هناك. وجورج دبليو وقبضاياته أخذوها إلى عارها في العراق. والقول إن الإنسان يتعلم من امثولات التاريخ ليس صحيحاً، لأنه يعتقد أنه قادر على صنع التاريخ بطريقة أفضل.

الخوف، أن تنتقل جماهير ترامب معه إلى البيت الأبيض بكل صراخها وسخطها وصخبها. واعتقد أنها سوف تكون مرجعه ودرعه في مؤازرة حكم يعوزه التعقل ولا تعنيه كثيراً روح الدستور. إن الذي انتصر في نهاية المطاف، هي الجماهير. ولم يكن ما هو اسهل عليها من الانتقال من شخصية جورج دبليو الركيكة إلى شخصية اوباما، كمفصل في تاريخ البيت الأبيض، إلى دونالد ترامب، أول مرشح بلا أي سطر سياسي أو قيمي أو نبيل في سيرته. عندما يتقدم الإنسان بطلب لملء وظيفة عادية، يُسأل عن كفايته وخبرته ومؤهلاته. سيرته رحلة في بحر جماهيري استغرقت 18 شهراً. وهذا الاتكال على عشوائية الجماهير وغرائزها على الأرجح، لن يتوقف. فالأسماء المرشحة لدخول ادارته جميعها من عتاة اليمين العنصري، وبعضهم مثله من أهل التبذل. وفي طليعة هؤلاء نيوت غينغريتش، الذي اشتهر بأنه طلب التأكد من الملابس الداخلية في خزانة بيل كلينتون.

رفعت جماهير دونالد ترامب لافتات تسميه "الامبراطور الإله". إنه الرجل الذي سوف ينتصر على اعدائها بسيفه، لا بفكره. يرمي خصومه على جانبي الطريق، ويقتحم العالم بعربة من نار. امتلأت شبكات التواصل في حملته بالتعابير التي لا تقال في البيوت. هذا لا يعني أن جميع الذين اقترعوا له مبتذلون ومسفّون، لكنه يؤكد أن مخاوف العقلاء والوسطيين واقعية ومنطقية في عالم ينزلق نحوتدمير الوسطية وإذلال المنطق.

*نقلاً عن صحيفة "النهار"

 

 

لماذا نعت المخابرات المصرية محمود عبد العزيز دون غيره

هو أول فنان مصري تنعاه المخابرات العامة ولهذا كان السؤال بارزاً.. لماذا؟ ولماذا هو دون غيره حتى الآن؟

قبل الدخول في التفاصيل والأسباب التي يكشفها مسؤول سابق بالجهاز لـ"العربية.نت" فإن النعي الذي نشرته المخابرات في صحيفة "الأهرام" الرسمية أمس للفنان محمود عبدالعزيز قدم جانباً من الأسباب وهي أن الفنان الراحل جسد بصدق وإخلاص وقدرة عظيمة بطولات أبناء الوطن.

رسالة ودلالة

اللواء محسن النعماني وكيل الجهاز السابق يؤكد لـ"العربية.نت" أن الفنان الراحل يستحق أن تنعاه كافة أجهزة الدولة وليس المخابرات وحدها، لكن نعي المخابرات له رسالة ودلالة وهي أن الفنان الراحل خدم بلده بإخلاص وتجرد، وقدم نموذجاً يحتذى للفنان الأصيل الذي عبر من خلال أداء تمثيلي بارع بطولة واحد من أشجع أبناء الوطن وهو "رفعت علي سليمان الجمال"، الذي تم زرعه داخل إسرائيل، مضيفاً أن الفنان الراحل عقد عدة جلسات مع ضباط جهاز المخابرات خلال التحضير للعمل للإعداد للشخصية والتمهيد لها، وأبهر ضباط الجهاز كما أبهر المشاهدين بعد ذلك بإجادته للشخصية وتقمصه المتقن لها.

وأضاف أن محمود عبد العزيز ومن خلال جلساته مع ضباط الجهاز والأديب الراحل كاتب السيناريو والحوار صالح مرسي قبل تصوير المسلسل كان يجسد كل يوم مدى حبه للوطن ورغبته في تقديم بطولات أبناء مصر الذين يعملون في الظل وفي صمت دون ضجيج، لذا أحبه الجميع وأحب هو شخصية رفعت الجمال، وكانت النتيجة أن قدم مسلسلاً رائعاً وملحمة درامية ما زالت راسخة في أذهان الجماهير العربية وليس المصرية فقط.

ويشير وكيل الجهاز السابق إلى أن محمود عبدالعزيز قدم أيضاً شخصية ضابط المخابرات في فيلم "إعدام ميت"، وأبرز من خلاله بطولات أبناء الجهاز وتضحياتهم ولذلك كان طبيعياً أن تنعاه المخابرات المصرية.

"رأفت الهجان" علق في نفوس المصريين

يتفق معه في الأمر اللواء محي نوح، القائد السابق في المجموعة "39 قتال"، ويؤكد أن مسلسل رأفت الهجان الذي قام ببطولته محمود عبدالعزيز علق بأذهان الجماهير وزرع في نفوس المصريين الثقة في جهاز المخابرات العامة، كما كان أداء عبدالعزيز في المسلسل مؤججاً للشعور الوطني وكافياً لكي يعلم الجميع بطولات رجال عملوا في صمت وكادوا يتعرضون للمهالك من أجل وطنهم، ويكفي مشهداً واحداً في المسلسل للدلالة على ذلك وهو المشهد الذي علم فيه "رأفت الهجان" بخبر وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، حيث آثر أن يظهر فرحته وسعادته بالخبر أمام ضيوفه الإسرائيليين الذين أبلغوه به، رغم تألمه من داخله، وعندما عاد للمنزل عبر عن حزنه الشديد كمصري بالبكاء وحيداً وبحرقة كأنه فقد والده، مؤكداً أن عبدالعزيز ومن خلال هذا المسلسل أثلج صدور المصريين ببطولات جهازهم الوطني وعزز من الانتماء لدى أجيال جديدة كانت لا تعلم إلا القليل عن المخابرات وبطولاتها.

العربية.نت" سألت عن حقيقة أن هناك فنانين آخرين قدموا أعمالاً للمخابرات ولم تنعهم المخابرات كما فعلت مع عبدالعزيز، مثل الفنان نور الشريف الذي قام ببطولة مسلسل "الثعلب".. ويجيب اللواء نوح قائلاً إن مسلسل نور الشريف لم يعلق بذاكرة الجماهير المصرية والعربية مثل "رأفت الهجان" ولم ترتبط الجماهير بمسلسل مثلما ارتبطت بـ"رأفت الهجان".

ويضيف أن الدليل على ذلك أن شوارع مصر لم تكن تخلو من المارة إلا في حالتين فقط الأولى عندما كان جمال عبدالناصر يلقي إحدى خطبه، والثانية عندما كانت أم كلثوم تشدو في سهرة الخميس الأول من كل شهر، وجاء مسلسل "رأفت الهجان" ليكون الحالة الثالثة التي كانت تخلو فيها شوارع مصر من المارة عندما يحين وقت عرض المسلسل.

من أين كانت البداية؟

ويقول إن قصة "رفعت الجمال" ظهرت أول مرة للوجود كرواية حملت اسم "رأفت الهجان" في 3 يناير 1986 في العدد رقم 3195 من مجلة "المصور" المصرية من تأليف الكاتب صالح مرسي وتعلق القراء بها ولذلك جاءت فكرة تجسيدها درامياً لتقديم العمل للملايين.

يقول شاكر إنه يقيم بنفس العمارة التي يسكن بها الفنان الراحل وإن محمود عبدالعزيز روى له قصة المسلسل، حيث علم الفنان الراحل أن دور "رأفت الهجان" سحب منه لصالح الفنان عادل إمام وقرر أن يلتزم الصمت ويترك الأمر كله لله خاصة أن الدور كان مناسباً له بسبب "طبيعة الملامح الشخصية" للبطل فهو وسيم وملامح وجهه تناسب المهاجرين لمصر ويجيد التحدث بعدة لغات، وهذا لا ينطبق على عادل إمام.

ويضيف شاكر أن الفنان الراحل قال له إنه استسلم للأمر وسافر مع أولاده لتأدية العمرة، وكان الرئيس مبارك يزور السعودية وقتها وشاهد محمود عبدالعزيز في صفوف المستقبلين فتحدث معه وأبلغه بما حدث له في مصر، فقال له مبارك نصاً: "لا تغضب وأنت من سيؤدي الدور"، وفور عودته تلقى اتصالاً هاتفياً من جهاز المخابرات بالذهاب لمقر الجهاز لبدء الاستعداد للعمل وخرج العمل للنور وببطولة الفنان الراحل.

يذكر أن مسلسل "رأفت الهجان" يتكون من ثلاثة أجزاء وعرض الجزء الأول منه في عام 1987.

علق هنا