المخدرات في العراق… داعش آخر

متابعة - العراق اليوم:

تشير تقارير قوى الأمن العراقية الى الانتشار الكبير وغير المسبوق لمافيات تجارة المخدرات في مدن العراق، التي باتت تمثل تهديدا للمجتمع لا يقل خطرا عن تهديد الارهاب، وربما أخطر لاستهدافه شريحة الشباب في المجتمع، التي اذا اصابها هذا الوباء فقد اصيب المجتمع بكامله بمقتل.

وقد تفاقم الخطر بشكل خاص مع ظهور مافيات تصنيع المخدرات محليا، بعد ان اصبح الحصول على المواد الاولية لهذه الصناعة الخطيرة متاحا عن طريق تهريبه من دول الجوار بكميات كبيرة جدا، وبحسب تقارير وزارة الداخلية العراقية أصبح البلد يعيش حالة حرجة، اذ لا يخلو يوم من مداهمة مافيات المخدرات، لكن بدون تحقيق تقدم واضح في الحد من هذه الظاهرة، التي نمت وتغولت بشكل مفرط نتيجة حالة التخادم بينها وبين مافيات الفساد المنتشر في كل مفاصل الدولة.

من المعروف ان العراق كان يعد من البلدان النظيفة أو التي تكاد تكون خالية من ظاهرة إدمان المخدرات حتى الثمانينيات، لعدة اسباب قانونية واجتماعية واقتصادية، وقد كانت حالات استهلاك المخدرات محليا محدودة جدا، وربما يعزى ذلك الى صرامة العقوبات القانونية، وعدم التساهل في التعامل مع هذه الظاهرة الخطيرة، حيث أقر النظام الجزائي عقوبة الاعدام للاتجار بالمخدرات والسجن المؤبد لتعاطيها، كما ان الرفض الاجتماعي لظاهرة تعاطي المخدرات كان سببا مهما في الحد من الظاهرة، مقابل استهلاك الكحول بكميات كبيرة.

يقول الدكتور محمد الازري الأستاذ في جامعة ليستر البريطانية والرئيس السابق لمنتدى الصحة النفسية في العراق، الذي عمل مستشارا في مسوح الصحة النفسية في العراق، التي أجرتها منظمة الصحة العالمية (WHO) بالتعاون مع السلطات العراقية، في محاضرة له بلندن: لقد لعبت الحروب المتكررة التي عاشها العراقيون من 1980 حتى 2003 وما اعقبها، دورا رئيسا في التأثير على الصحة النفسية للعراقيين وبشكل خاص في تنامي ظاهرة الادمان. وقد اشار الأزري الى شيوع ما عرف بظاهرة (الكبسلة) التي تعني تعاطي العقاقير المهدئة وحبوب الهلوسة أبان الحرب العراقية الايرانية، بين اوسط الجنود نتيجة ما يعانونه من ضغوط الحرب، وشيوعها بشكل اكبر مع انطلاق ما عرف بالحملة الايمانية، التي اطلقتها الدولة في بداية التسعينيات، والتي وضعت الكثير من المحددات على بيع وتعاطي الكحول، كما أن تردي الاحوال الاقتصادية جعل لجوء الشباب إلى العقاقير الرخيصة الثمن حينها يزداد بشكل لافت، لكننا لا نملك إحصاءات أو مسوحا علمية يمكن ان نستند لها، نتيجة تعامل النظام السابق مع المعلومات بسرية وتكتم، لكننا نستطيع الاشارة في ما يخص مشكلة العقاقير الطبية واساءة استخدامها، ان المشكلة الاكبر كانت في الادوية المهدئة، وانتشار استخدامها والحصول عليها بيسر، من منافذ توزيع الادوية كالمستشفيات والصيدليات، ومع غياب نظام سيطرة على توزيع الادوية اخذت هذه المشكلة بالتفاقم والانتشار.

ان مشكلة المسوح في العراق هي عدم معيارية العينة العشوائية التي يتم الاعتماد عليها واختيارها، مثل المراجعين للعيادات، أو مستشفيات الصحة النفسية، وهنا يمكن ان نسأل ما هو رأي الاطباء والاخصائيين النفسيين في ظاهرة ادمان العقاقير والكحول؟ ويكون الجواب، تشير المسوح المتوفرة حاليا إلى أن 58 من 70 عيادة، اي بنسبة 83% من الاطباء والعاملين في الصحة النفسية كان انطباعهم أن الادوية التي تعطى للاستخدام النفسي، كانت تتسرب إلى السوق السوداء من اجل الربح، وهذا الامر تطابق مع المسح الذي قامت به (WHO) عام 2009.

لقد أظهر المسح المشار إليه أن مشكلة الادمان في العراق ابان حقبة التسعينيات كانت ادمان العقاقير، مقارنة بدول الجوار التي ينتشر فيها ادمان الحشيش والافيون والهيروين، الذي كان قليل التواجد في العراق، لكن بعد 2003 ومع تردي الحال الذي وصلت له مؤسسات الدولة، كان هناك تخوف حقيقي من انتقال انواع الادمان الجديدة الى العراق، وهذا ما حصل فعلا، ففي عام 2010 اصدرت منظمة الصحة الدولية تقريرا عن العراق جاء فيه، ملاحظة ازدياد ادمان العقاقير في شريحتي النساء والاطفال، إضافة للبالغين من الرجال، وقد اعتبرت هذه الظاهرة نتيجة طبيعية لتوتر الوضع العام، وهي ظاهرة عادة ما توجد في المجتمعات التي تمر بأزمات أو حروب أهلية.

ولم تكن لدى المعنيين فكرة واضحة عن استهلاك الهيروين في العراق، لكن المؤشرات العامة تؤكد ازدياد نسبة استهلاكه في السجون مثلا، كما ان الاستهلاك في المدن كان اكثر من الارياف. أما الحشيش فقد ازداد الادمان عليه، لكن لا توجد احصاءات دقيقية تبين مدى استهلاكه، وبالتعاون بين مؤسسات رصينة في قطاع الصحة النفسية في الولايات المتحدة ومؤسسات الصحة النفسية في العراق، تم التوصل الى توصيف دقيق نوعا ما لمشكلة الادمان في العراق، وتقديمها في تقرير لصانع القرار السياسي عام 2014. ومن بين مؤشرات هذا التقرير نستطيع ان نشير إلى أن المرحلة ما بين 2009 – 2012 كانت مشكلة الادمان الرئيسية تتمثل في ادمان العقاقير الطبية، أما الحشيش فانه كان يأتي بالدرجة الثانية، ثم تبع ذلك ظهور بعض حالات ادمان الهيروين. بعد 2010 ازدادت حالات إلقاء القبض على شحنات الهيروين المهرب إلى العراق، في حين كانت شحنات الحشيش هي السائدة قبل هذا التاريخ بنسبة تكاد تصل الى 100%، وهذا التغيير في حالات القبض يعطي مؤشرا على تغير نوع الاستهلاك والادمان في العراق، ورغم ان العراق مثل تاريخيا ممرا مهما لانتقال المخدرات من الدول المنتجة (افغانستان وايران وباكستان وشرق آسيا) الى الدول المستهلكة (دول الخليج ومصر وجنوب اوروبا) إلا أن تسرب المواد المخدرة الى العراق كان قليلا بسبب نمط الإدمان الشائع وهو الكحول والعقاقير الطبية، لكنه بدأ التغير مع دخول انواع المخدرات الاخرى للعراق بعد 2009.

كما تجدر الاشارة الى ان الادوية والعقاقير المهدئة كان مصدرها الاساسي المؤسسات الصحية العراقية، حيث تتسرب منها الى السوق السوداء، نتيجة سوء الرقابة على القطاع الصحي، لكن حدث تغير دراماتيكي في هذا المضمار تمثل في تهريب كميات كبيرة من العقاقير من خارج العراق، فقد تم القبض على شحنات متعددة من هذه العقاقير، وكانت الشحنات الاكبر متمركزة في المحافظات الشمالية والجنوبية بشكل لافت بينما محافظات وسط العراق كانت الاقل عرضة لهذا التهريب، وبحسب مؤشرات التقارير المختصة نجد ان هنالك انتشار انواع معينة في مدن محددة، ربما بسبب تهريب نوع من العقاقير، إلى هذه المدن مثل انتشار الترامادول في محافظة نينوى وتجارته مشهورة في هذه المدينة، كما لاحظ القائمون على مسح الحالة الصحية النفسية في العراق الذي نفذته (WHO) دخول انواع جديدة من العقاقير لم تكن معروفة في العراق سابقا مثل الامفيتامين التي تمثل حبوب هلوسة وتحفيز في الوقت نفسه. ومن المعوقات التي يواجهها العراق في هذا الشأن هو توزع الامر على عدة جهات ذات اختصاصات مختلفة، فالقوى الامنية معنية بالجانب الإجرامي وتهريب الممنوعات الى داخل البلد، بينما الجهات الصحية معنية بمعالجة ظاهرة الإدمان، والباحثون الاجتماعيون معنيون بمعرفة سبب ظاهرة الادمان واسباب ازديادها، وعلاقة ذلك بالظروف الاجتماعية والسياسية للبلد، لكن كل ذلك كان يتم بدون وجود جهات مشرفة تنسق جهود كل هذه الاطراف. ليبقى السؤال هل سينتبه صناع القرار في العراق لهذا السرطان الخفي، الذي ينهش المجتمع ويتخذون الاجراءات الفعالة لمعالجته؟ أم اننا مقبلون على الكارثة لا محالة؟

كاتب عراقي

المصدر صحيفة القدس العربي

علق هنا