التدين و التقونن

بغداد- العراق اليوم: 

 مهند الساعدي 

الشرق متدين والغرب متقونن ، هذا ما تيقنته  صباح اليوم ، وانا أتجاذب أطراف الحديث مع استاذي الألماني في التنمية البشرية السيد ( إيكڤيرت ) . 

ولأنه يعرف انني لا انام ليلتي الا على كتاب ، وهو يعرف مرض عيني ، وضرر القرأة والكتابة الطويلة عليهما ، فقد بادرني بسؤال صباحي قائلاً : ماذا قرأت امس ؟ قلت له منذ ثلاث ليالي وانا أنا أقرأ ( Mein Kampf ) أي : كتاب ( كفاحي ) لأدلوف هتلر !!

جفل قليلاً ، وكانه تفاجأ بشيئين : صراحتي ومباشرتي من جهة ، وكون الكتاب قديم ومقروء ، وانا صاحبه الذي عوده على كل جديد . 

كنت انظر اليه وهو يتحفظ بصمت على قرآتي للكتاب ، وذكري لاسم مؤلفه في مكتب رسمي ، وقد تحولت ملامح وجهه الى ما يشبه وجه تقي مسلم ورع ، يستمع الى غيبة ، او بهتان ، او كذب ، فينقبض وجهه ليعبر عن رفضه للمنكر بأضعف الإيمان .

والالمان بشكل عام ، حساسون جداً من موضوع النازية ، وزعيمها ادلوف هتلر : فكراً ، وتاريخاً ، وقانوناً . 

أما فكراً فانهم شعب حي ، تطورت افكارهم كثيراً ، بالاتجاه المعاكس للفكر النازي ، في الحياة الديمقراطية ، والعلاقات الدولية ، وتطوير الوطنية الالمانية خارج حدود العصاب الوطني الذي كانت عليه النازية . 

والالمان اليوم يفتحون حدودهم للاجانب ، ويوفرون رعاية منقطعة النظير للمعوقين ، وشقراواتهم يتزوجن الزنوج ، وينجبن من العرب ، ويمنحون اليهود الجنسية والإقامة أسرع من غيرهم ، ويمدون جسور الصداقة والتعاون للدول التي عانت من حروبهم ، وكانت مسرحاً للحرب التي قادت اليها نظرية هتلر التوسعية ( Lebens platz ) أي : المجال الحيوي ، وهي دول : النمسا والچيك ، وسلوفاكيا ، وبولندا ، وروسيا ، والاسكندنافية ، وبلجيكا ، وهولندا ، وفرنسا . 

القانون الألماني يحضر النازية ، فكراً ، وسياسة ، ويمنع استخدام الرموز النازية مثل الصليب المعقوف وغيره ، ويتحسس الالمان حتى من التحية العسكرية المميزة لزعيم النازية .

وفي الحقيقية ان مراجعتي لكتاب ( كفاحي ) هي ضمن برنامج احاول فيه مراجعة تطور ذائقتي الفكرية ، مع تطور  التجربة وتقدم العمر . وفعلا وجدت انني أعيد قرأة الكتب في اربعينيتي ، بعقل ووعي وذائقة مختلفة . وقد جربت ذلك في مراجعة كتب كثيرة ، فلم أعد اقرأ كتاب (تلبيس ابليس ) لابن القيم بالبراءة التي قراته بها في الثامنة عشر من عمري ! ولم تعد ( الفضيلة عند بول وفرجيني ) للمنفلوطي تهزني كما هزتني في السادسة عشر من عمري ، ولاحتى ( الام ) لغورغي التي ثورتني ، ولا حتى( مكارم الأخلاق ) بذات التعبدية السلفية ! وكذلك كانت مراجعتي لهذا الكتاب .

لكن صاحبي السيد ايكڤيرت ، المهندس المعماري ، والمحاضر التنموي ، والموسيقي ، والممثل المسرحي المتعدد المواهب ، والذي ياتي للدوام على دراجة نارية ، شخصية متقوننة جداً ، كما نحاول نحن ان نكون متدينين جداً ، فنفشل في الغالب وينجحون !

اقولُ هذا فيما يتعلق بتدين الشريعة ، وما يتعلق به من أحكام ومعاملات ، وليس بالتدين الروحي ، والتجربة الدينية الخاصة . 

ذلك لان صاحي المولود من أب ملحد ، وأم بروتستانتية ، ورث الإلحاد من ابيه ، ولم يرث الإيمان من أمه ، لكنه يقول : لا اتذكر انني خالفت القانون الألماني في حياتي منذ وعيت على معنى كلمة ( قانون ) .

لكنني تماديت معه ، مصراً على اختبار وجهات نظره في افكار كفاحي فقلت له : وجدت لدى هتلر مع كم الافكار العنصرية والراديكالية الغثة ، ثلاثة افكار صحيحة هي : 

أولاً / نقده لما اسماه باقتصاد ( الحليب والبيرة ) الذي يخدع الالمان بتحقيق منجزات اقتصادية قريبة ، ويفرط في التخطيط لمنجزات طويلة الامد .

ثانياً / تشخيصه ان اليهود يعملون كعنصر وجنس وأمة وليس كدين ، وهو ما اكده  بلفور لاحقاً في وعده ( بالوطن القومي !! لليهود ) .

ثالثاً / محاربته للأباحية والتحلل الخلقي وان كان من مدخل أضعاف القدرة والاستعداد القتالي للجيش والشعب الألماني .

لكن ماذا تنفع هذه الافكار ، وهي تضيع بين مجموعة من العنصريات الهتلرية ، كما تضيع الابرة الصغيرة في تل كبير من القش !

لكن السيد ايكڤيرت يستمع ولا يتكلم ! إنه مثال للانسان الغربي المتقونن جداً .

تركته لصمته ، ولفني الصمت مثله ، وانا أقف خلف نافذة المكتب العريضة ، أتأمل بياض الثلج الناصع ، الذي غطى حقول الشوڤان الواسعة التي يطل عليها المبنى ، ولا أفكر الا بشئ واحد هو :

الفروق الجوهرية العميقة ، التي دمرت شعوب التدين ، وعمرت شعوب التقونن .

علق هنا