غابرييل غارسيا ماركيز الساحر في متاهته

بغداد- العراق اليوم:

في السابع عشر من أبريل 2014 أغلق خوسيه دي لا كونكورديا غارثيا ماركيث، والمعروف بغابرييل غارثيا ماركيز، كِتابَ حياتِه ورحلَ عن عمر يناهز سبعة وثمانين عاماً كواحدٍ من أهمّ الأدباء الحكَّائين في أميركا اللاتينيّة والعالم.

غابو الشاب والعالم

هكذا انتقل ماركيز إلى عالمٍ سحريّ آخر يشبِهُ على نحوٍ ما العوالم السحرية التي قدّمَها لنا الحكّاءُ الغجري في تَرِكَتِهِ السرديّة الثريّة. وإذا ما كنّا قد عرَفنا عوالمَ ماركيز بواسطة كلماته فإنَّ العالم الذي مضى إليه ما يزال غامضاً ومجهولاً بالنسبة إلـينا نحنُ الذين ما زلنا على الضفّةِ المقابلة، ذلك العالم الذي كما قالَ لهُ جـدُّهُ ذات يـوم وهُما يـنظران إلى خط الأفق “ليس ثمّةَ من شاطئ على الجانب الآخر”، كانت تلك هي المرة الأولى التي رأى فيها غابـرييل ذلك الخـط، كما يقول.

 

أسألُ نفسي، كيفَ بدا الموتُ لماركيز؟ هل بدا غريباً ورهيباً، أم أنَّ صاحبَ “قصّة موتٍ مُعلَنٍ” كان يعلَمُ مسبقاً أيّ عالمٍ ينتظره مثلما كانت روايته آنفةَ الذِّكرِ معلومةَ النهاية؟ أم أنَّ الزهايمر الذي انقضَّ على ذاكرته في سنِيِّهِ الأخيرة محا وجهَ الموت من مخيّلةِ الرجُل؟ أليسَ الموتُ هو النهاية المحدّدة مسبقاً لرواية حياتِنا؟

 

مع ذلك فإنَّ هذه النهاية تحتفظ لنفسها بعناصر تتناقضُ معَ علَنيّتها كالمفاجأة والغموض. لا شكَّ بأنَّ موتَ أحدهم يشبه في صورةٍ ما فتيلاً صاعقاً لانفجاراتٍ لا نهايةَ لها من الأسئلة، فما بالُك إذا كانَ الميتُ رجلاً ترَك خلفَهُ كلّ هذا الحكي.

 

في شهر يوليو من العام 1965 قرّر ماركيز أو “غابو” كما لقَّبَهُ إدواردو ثالاميا بوردا مساعد رئيس التحرير في صحيفة الإسبكتادور الاعتكافَ في منزله الكائن في منطقة كالي دي لا لوما في مدينة مكسيكو بعد أن أوعَزَ لزوجته أن تبيع السيارة وتفتح حساباً دائناً لدى جزّار الحيّ ليدخُلَ بعد ذلك في معسكرِ كتابةٍ مغلَق على مدار خمسة عشر شهراً، واظَبَ خلالها على الكتابة لمدة ست ساعات يومياً في غرفةٍ أطلقَ عليها اسم “كهف المافيا”. اقتصَرَ زاد ماركيز خلال ساعات عمله، آنذاك، على أصابع السيجار وأقداح الويسكي.

 

كانَ ماركيز يخرُجُ من “كهفِه” عند الساعة الخامسة من مساء كلِّ يوم مُتأمِّلاَ شفَقَ المغيب بعينيه الواسِعَتين كما لو أنّه قضى نهاره في محادثةِ الموتى. تَجِدُ بين جدران تلك الغرفة/الكهف؛ الدلتا الشاسّعة لنهر ماجدالينا والبحر الرمادي المُزبِد لساحل كولومبيا على البحر الكاريبي والمستنقعات الخانقة في منطقة سياناغا ومزارع الموز المنتشرة على مدِّ النظر وسِكّة قطارٍ طويلةٍ كانت تصِلُ إلى أعماقِ فؤادهِ حيثُ قريةُ أراكاتاكا التي نشأ فيها ماركيز في كنَفِ جَدَّيهِ لأمّه، وهي القرية التي أعاد تسميتها بنفسه عبرَ بديلِها الشعريّ الذي اختاره لها ليُصبِحَ اسمها اليوم ماكوندو حيثُ المنَّقِبونَ عن الذهب والماجنون والغجر والأوغاد والعَذارى المُكِبّات على إطاراتِ التطريز.

 

    رواية ماركيز "مئة عام من العزلة" ذائعة الصيت تحقق مبيعات تقدر بـ50 مليون نسخة في أكثر من ثلاثين لغة، ملبية شرط الملحمية في اتساعِ مادتها السردية وشمولية طرحها وفرادته في الوقت نفسه

 

الروائي والواقع

 

في تلك الغرفة التي تكهَّفَ فيها ماركيز كانَ يتنشَّق صدى رائحة سكاكر الحليب وعشبَةِ الأوريغانو التي كانت في خزائنِ جدّته، كما شعر بنفسه ممتلئةً بالغضب السياسيّ الذي كان لجَدِّه وهو الذي قاتل في صفوف الليبراليين خلال حرب الألف يوم. كان جدّه أيضاً هو الذي اصطحبه ليتعرّف إلى الثلج ويجرّب ملامسته الشهيرة التي تحدّث عنها في الصفحة الأولى من روايته الخالدة.

 

رواية “مئة عام من العزلة” كانت ثمرة اعتكافِ ماركيز في مُعسكرِه المغلق، الرواية ذائعة الصّيت التي حقّقت مبيعات تقدر بـ50 مليون نسخة في أكثر من ثلاثين لغة ملبية شرطَ الملحميّة في اتّساعِ مادّتها السردية وشمولية طرحها وفرادته في الوقت نفسه. وبحسب ما رأى النُّقاد آنذاك فإنَّ أسلوبها الذي وصَفوه بالواقعيّة السحرية لم يكن بالأمر الجديد، إِذْ سَبَقَ وأن تلمَّسَ العبقريّ الأرجنتيني الأعمى خورخي لويس بورخيس طريقَهُ عبر هذه المتاهات السحريّة من قبل.

 

غير أنَّ شُهرة رائعةِ ماركيز كانت مُذهِلة فقد أغوَت أميركا اللاتينية العالم حيث العداء الذي يلفُّ عائلة بويندييا بأجيالِها الستّة من الداخل والخارج بالبنادق والصّمت على مدى أجيال، وحيثُ ألزمَ الموتُ ضحاياه من النسوةِ بحياكةِ أكفانهن بأيديهنّ وحيثُ غرِقت شوارع ماكوندو بدماء الذين قضوا انتحاراً بالرصاص وخَطَفَت السماء روح الحسناء ريميديوس بينما كانت تنشر الملاءات على حبل الغسيل.

 

لطالما أصرَّ غابو على صِحَّة وواقعيّة كل ما بدا أنّه مستحيل وغير واقعيّ بالنسبة إلى الآخرين. إنَّه الواقع بِزيِّهِ المحليّ هو ما بدا بكلّ تلك الروعة والسّحرية.

صحافي ضد الحكومات والإرهاب

إلى جانب كتابته الروائيّة أبقى ماركيز على مهنته الأولى وهي الصحافة حيث واصَلَ وبشجاعة لافتة كتابة التقارير التي تفضح الحكومة وتُعَرِّي الإرهاب والاتجارَ بالمخدرات من قبَلِ المتنفّذين فيها. وعندما أصبحت شهرته طاغيةً أرسلَته الحكومة الكولومبية بمهمة للتوسُّطِ لدى متمرّدي “فارك” الذين كانوا يخوضون حرب عصاباتٍ ضدّها، الأمرُ الذي بدا سورياليّاً بكلّ تأكيد، حاله حال أيّ شيءٍ كتبه ماركيز في منزله في كالي دي لا لوما.

 

بعد فوزه بجائزة نوبل عام 1982 وهو من بين يساريّين قلائل حازوا على هذه الجائزة التي لربما تبدو يمينيّةً أو لا يساريّة، إذا ما شئنا أن نكون أقلّ تحامُلاً وأكثر ابتعاداً عن التعميم، قال ماركيز أمام الجمهور الذي حضر حفل تسليم الجائزة إنَّ الأمر الذي لم يستطع العالم فَهمَهُ عن الأدب الأميركي اللاتيني هو “ذلك الحضور لأشباح المُختَفين الذين يبلغ عددهم تعداد سكان مدينة أوبسالا شرقي السويد إضافةً إلى المهاجرين والمنفيّين الذين يساوون في عددهم عدد سكّان النرويج. كانت تلك الأشباح بواقعها المختلف مثابِرَةً كجمال القارّةِ وعنفِها وآلامِها”.

 

بالكتابة لن أموت

 

كان ماركيز يجد نفسه متعاطفاً مع اليسار الليبرالي وعلى اعتبار أنَّ كولومبيا تحوّلت إلى مكانٍ لا يطاق في ظلّ حُكم الجنرال روخاس بينيلا لذا فإنّه لجَأ إلى المكسيك عام 1961. وطيلة سنوات رفضت الولايات المتحدة دخوله إليها. لربّما كان ذلك على خلفيّة صداقته بالزعيم الكوبي الراحل فيديل كاسترو ومن ثمّ نظيره الفنزويلي هوغو تشافيز وهما اللذان كانا يفتخِران بأنهما من أصدقاء ماركيز.

 

كان ماركيز يذهبُ صُحبَةَ كاسترو في رحلاتِ صيده وكما يقول “كنّا نتحدّثُ عن الكتب وليس عن السياسة”. كان الرجل قريباً من السياسة التي يبدو أنّها أغوته شخصيّاً بقدر ما أغوت حكاياه، فليست “مئة عام من العزلة” روايته الوحيدة التي تفوح منها رائحة السياسة والحُكم، ذلك ما نجده أيضاً في رواياتٍ أخرى مثل “الجنرال في متاهته” وهي التي أرّخت للأيام الأخيرة من حياة الزعيم الفنزويلي سيمون بوليفار. وكذلك الأمر في “خريف البطريرك”.

روايات ماركيز وحكاياه لا تفترض أي فصل بين الحقيقة والخيال

 

كانت الكتابة أمراً صعبا جداً إذْ أن الكلمات تخرج بصورة مؤلمة وكأنها “حصيّات الكِلى”، وعلى الرغم من ذلك لم يكن ماركيز يسعى لأيّ هدف آخر في حياته سوى الكتابة حتى أنّه اتّخذ لنفسه شعاراً يقول “بالكتابة لن أموت”.

 

كانت شرارة رغبته هذه انقدَحت منذ طفولته معَ كتاب “ألف ليلة وليلة” ومع قصّة السمكة التي يُعثَرُ في جوفِها على لؤلؤةٍ بحجم حبّة اللّوز. ومن ثمّ تعززت هذه الرغبة لاحقاً خلال أيامه التي قضاها طالباً في كليّة الصحافة وفي مقاهي بارانكويلا وكارتاجينا حيث اكتشف كافكا وفولكنر ووولف وهيمينغواي. مع ذلك فقد ظلَّت جدّته أقوى من ترك فيه أثراً وهي التي علّمه وجهها الجامد، كما يقول، أنَّ أكثر الأشياء غرابةً هي حقيقية في الواقع.

 

لم تفترض روايات ماركيز وحكاياه أيّ فصلٍ بين الحقيقة والخيال، وإذا ما كان ثمّةَ من جدارٍ بينهما فلا شكّ بأنَّ سرد ماركيز الشعريّ قد فتح ثغرةً واسعةً في ذلك الجدار إن لم يكن قد هدمَهُ عن بِكرةِ أبيه.

 

“لا شيء يشبه الإنسان في طريقة موته”، “ذاكرة القلب تمحو كل الذكريات السيئة وتُضخِّم الذكريات الطيبة، وإننا بفضل هذه الخدعة نتمكن من تحمُّل الماضي”، “إنَّ أحداً لا يستطيع تعليم الآخرين الحياة”، تلك بعضٌ من أشهر الاقتباسات التي تناقلَها قرّاء غابو عنه طيلةَ عقود، ولربّما تحمل هذه الكلمات الكثير ممّا أراد ماركيز قوله في منجزه السردي الخالد قبل أن يصعدَ إلى قارب رحلته الأبدية.

علق هنا