كيف نجح جهاز المخابرات الوطني في نيل ثقة المواطن العراقي وكسب رضاه؟

بغداد- العراق اليوم:

لا يملك أي جهاز مخابرات في العالم، سمعةً سيئة، كتلك التي يمتلكها جهاز المخابرات العراقي السابق، فهو واحد من أسوء الاجهزة القمعية والفاشية على الاطلاق. له تاريخ غير مشرف، وسيرة دموية بشعة ضد ابناء الشعب العراقي، حتى باتت كلمة " الحاكمية" كناية عراقية شهيرة عن مدى الوحشية والرعب والظلم والتعذيب الجسدي والنفسي الذي يصيب أي شخص، وحين يريد العراقي وصف مبالغة شخص في مخاوفه، فأنه يبادر الى هذه المقولة " وين ماخذك للحاكمية؟"! والحاكمية هي مقر تابع للمخابرات السابقة تجري فيه استجوابات الذين يجري اعتقالهم من قبل جلاوزة النظام، وبالفعل كانت " الحاكمية" مسلخاً بشرياً حقيقياً لا يضاهيه أي مسلخ في هذه المستديرة!

سيرة اجرامية حافلة

لم يكن العراق يعرف حتى اواسط الستينات بناء جهاز أمني قامع مثل المخابرات، انما كانت هناك شعبة، او مديرية عامة للأمن تعنى بشؤون متابعة الملفات ذات الطابع الخارجي، او  ربما الانشطة التجسسية، الى ان جاء البعث المشؤوم، وأنشأ جهازه الاخطر الذي اسماه " حنين" بين عامي 1964 و 1966، والذي اشرف عليه صدام حسين شخصيا، ومنذ ذلك الحين، ظل هذا الجهاز ينفذ مهمات ذات طابع تجسسي، وطابع تنفيذي وسخ في اغتيال بعض الشخصيات الوطنية، او المعارضة لنهج البعث، بل وحتى من بعض القادة البعثيين انفسهم، الذين اختلفوا ربما مع منهج الحزب الدموي والتصفوي، الى ان تمكن هذا التشكيل السري من الاطاحة بعبد الرحمن محمد عارف، بعد ان كسب ود بعض الضباط الذين اطيح بهم لاحقاً كعبد الرزاق النايف الذي  كان بمنصب مدير الاستخبارات العسكرية، وعبد الرحمن الداوود الذين جرا طردهما لاحقاً، ثم تم اغتيال النايف على يد ذات الجهاز!

الجهاز الخاص

بعد سنوات على مجيء بعث البكر وصدام الى السلطة، وبالتحديد في العام 1973 حول صدام جهاز "حنين" الى الجهاز الخاص الذي لعب دوراً قذراً في تصفية المعارضة العراقية، واغتيال كوادر تقدمية وطنية مهمة، واشاعة الرعب بين اوساط الشعب العراقي، وقد أشرف على هذا الجهاز المجرم سعدون شاكر، الملقب شعبياً بسعدون "ورور." اعقاب عزل صدام للبكر، في 1979، تم اعفاء سعدون شاكر من المنصب، واوكل صدام المهمة الى اخيه غير الشقيق برزان التكريتي، الذي كان مجرماً بكل ما تعني الكلمة من معنى، وقد أظهر الى العلن ما كان مخفيا، من بطش غير مسبوق، وجرائم لم يعرف لها نظير من قبل، الى ان عزله صدام، ليعين شقيقه الاخر سبعاوي الحسن، الذي لا يقل بطشاً واجراماً عن سابقه. وفي 1983، اعلنت السلطة عن تبديل اسم الجهاز الخاص الى جهاز المخابرات.

المخابرات و "التكارتة"

بعد أخوي صدام برزان وسبعاوي، جاء دور ابن عمه عبد حسن المجيد الذي شغل منصب رئاسة هذا التشكيل القمعي الدموي، الى العام 1999، ثم جاء دور رافع دحام مجول التكريتي الذي قتله النظام، وعين بدلاً عنه طاهر جليل حبوش! الذي بقي في المنصب حتى سقوط النظام في 2003.

ملف الاغتيالات

الذين درسوا ملف جهاز المخابرات العراقي السابق، لم يغفلوا دوراً هائلاً لعبه برزان التكريتي في تأسيس فروع لهذا الجهاز الدموي في الكثير من الدول، تولت عمليات الاغتيال لمعارضين وكفاءات عراقية مهاجرة، والكثير من عمليات الاختطاف والتجنيد وغيرها، ولعل اغتيال اية الله السيد مهدي الحكيم في السودان عام 1988، واغتيال الشيخ طالب السهيل في بيروت عام 1994، واغتيال الدكتور اياد حبش في روما، ومئات العمليات الأخرى التي نفذت وخطط لها في أروقة هذا الجهاز!

زلزال 2003

من الاهمية بمكان تسمية ما حدث في 2003 بـ " زلزال" حطم صخور القمع والقتل والرعب التي جثمت على قلوب العراقيين، وخلصتهم من أعتى جهاز مخابرات دموي، وفككت أسطورة ماكنة الموت هذه!

ولكن، هل نكفر بكل تجارب العالم في بناء جهاز مخابرات مهني علمي تقني، ونبقى بلا سور واق لأمن البلاد واهلها، لأن الذاكرة ممتلئة بصور الرعب!

صحيح ان التركة كانت ثقيلة، وإن العراق الجديد واقع بين الحاجة والمخاوف، فيحاول تغليب المصلحة على العاطفة، لذا فأن إنشاء جهاز مخابرات جديد، يتصف بمواصفات حضارية وانسانية ووطنية مغايرة لمواصفات الأجهزة القمعية السابقة، بات ضرورة ملحة، على ان تصاحب هذا التشكيل عقيدة جديدة، وقيم جديدة، وطريق عمل جديد، يتم فيه الفصل التام والحاسم بينه وبين ماضي ذلك الجهاز السيء، فلا هذا وارث لذاك، ولا ذاك يمكن ان يستفاد من ارثه الممزوج بدم الابرياء!

وعلى هذه الأسس القانونية والدستورية بُني في السنوات السابقة جهاز وطني للمخابرات، وقد أعلن هدفه الاساس الذي يتمثل بحماية مصلحة البلاد، وحفظ كيانها ومستقبلها، وسيادتها، مع حفظ امن وكرامة المواطن، إذ لأول مرة نرى جهاز مخابرات عراقي يؤمن بتلازم وتكامل هاتين المهمتين سوية.

ولعل المتابع لدور الجهاز وبالتحديد بعد محنة 2014، يمكن ان يلحظ تطوراً هائلاً في نظرة المجتمع لهذا الجهاز، حيث لا يمكن لأي من العراقيين اليوم ان يذكر هذا التشكيل بسوء، بل ان الغبطة والفرح وعلامات الرضا هي التي تسود، كلما ذكر نجاح لهذا الجهاز، فكيف "أُنسنت" العلاقة بينه – جهاز المخابرات –  وبين الجماهير؟

ولعل الإجابة عن هذا السؤال عميقة، تحتاج الى اسهاب، لكننا سنوجز، قدر المستطاع، فأنسنة العلاقة، كانت ثمرة من ثمرات اختيار العناصر المخابراتية عبر مواصفات جديدة، أهمها الولاء الاول والأخير للوطن والشعب، وليس للسلطة السياسية وشخص الحاكم، فسلامة السلطة السياسية، وأمن الشخص المسؤول يأتيان ضمن السلامة والأمن العام المتوفرين للوطن والشعب، وليس فوقهما، أو قبلهما.. ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في إنجاح تجربة جهاز المخابرات العراقي الحديد توفر منظومة قيادية شبابية مثقفة تفهم طبيعة عمل الجهاز الوطنية ومهامه التربوية والأخلاقية، مضافاً لها الشفافية والوضوح، والخروج التام من منطقة السراديب والأقبية السرية المظلمة، فجهاز المخابرات اليوم لم يعد رواق موت، ولا "درب الصد ما رد" كما يقول العراقيون عن ذلك السابق، فأي عمل ينجزه الجهاز يعرض، ويعلن عنه –  طبعاً بعد ان يتم وينجز تماماً –  بحيث لا يؤثر اعلانه على اكمال ونجاح المهمة.  وفوق هذا كله فإن للجهاز مهمات دستورية واضحة ومحددة، لا يمكن القفز فوقها مهما كانت الاسباب، يضاف لذلك ايضاً، ما يتمتع به عناصر الجهاز من الفدائية العالية، والتضحية والبسالة التي اظهروها في معارك التحرير التي خاضها العراقيون ضد عصابات داعش في الموصل وغيرها.                       

وما يسجل لهذا الجهاز ايضاً، هو عدم التفاخر والتباهي والتهويل الاعلامي للمنجزات التي يحققها، مما جعله قريبا من الناس، بخاصة وانه عراقي من الوريد الى الوريد، فهو متشكل من جميع الطوائف والاطياف العراقية، عكس ما كان الجهاز السابق، حيث اغلبه من لون واحد، بل ومن منطقة واحدة تقريبا، بينما الجهاز اليوم يمثل كل مناطق العراق بلا تمييز. ويتم اختيار عناصره وفقاً لشروط الأداء المتفاني، والقدرة المهارية، والانتماء الوطني لا غير.

علق هنا