فالح الدراجي يصرخ بوجه الطائفية: (ضاع من أديٌه ولد .. وخايف على الثاني)، وعبد فلك يستجيب لصراخه!! قصة من زمن الفتنة السوداء ..

بغداد- العراق اليوم:

 

فيديو الاغنية :

حيدر قاسم

واحدة من أبرز مهام المثقف و الفنان في أي مكان من العالم، هو أن يسخر فنه و ثقافته و أدبه في تمثل الواقع، و استشراف المستقبل، التحذير من المأسي، و تجاوز اللحظة بنظر ثاقب، و رؤى بعيدة، و الأهم من ذلك، أن ينحاز هذا (المثقف) اياً كان تصنيفه ( كاتب – شاعر – مغنِ- تشكيلي.. الخ)، فوق الانتماءات الضيقة، و يتجاوز الأطر الخانقة الى فضاء الإنسانية الرحب. حينذاك فقط سيكون قد أدى دوراً رسولياً، و احتل مكانه برحابة و بقوة في أرفع مراتب ضمير الأمة، فالمثقف يجب أن يكون منحازاً على الدوام، و لكن أي انحياز، تلك هي المسألة!.

 في الحفرِ الذي نريد منه، الوقوف على مسببات و مفجرات العنف الطائفي الذي اندلع في عراق ما بعد الديكتاتورية، و خصوصاً بين عامي 2005 و عام 2008، سنجد أن ثمة خطاباً دينياً، أحادياً متطرفاً، تكفيرياً، تدميرياً، زرع الكراهية و أشاع الرعب، و تسبب بحدوث شرخ في جسد الأمة العراق، و لكنه لم يكن كل صورة الخطاب الديني، فنسجد ايضاً خطاباً دينياً معتدلاً، يدعو للتسامح، و ينبذ العنف، و يحرم الاقتتال، و لكن للأسف سنجد ان صوت التطرف كان الأعلى و الأكثر شيوعاً، و لذلك أسبابه التي ينبغي ان تدرس بشكل منفصل.

 وسنجد ايضاً خطاباً اعلامياً، كان في الغالب موجه من الخارج الى الداخل العراقي، مهمته تنحصر في صب المزيد من الزيت على أوار تلك النار المشتعلة، و لذا كانت الفضائيات العربية في غالبها، ترسل عبر بثها، قنابل الكراهية و البغضاء و تزيد التشاحن، و تعزف على أوتار الطائفية بكل ما أوتيت من " بترودولار" !

بقي أن نفحص بشكل موضوعي الخطاب الثقافي، الذي ينبغي القول أنهُ في الغالب بقي أسير مخاوفه، و للأسف انحيازات ايدلوجية ايضاً، بل يمكن القول أن المثقف العراقي كان الضحية الأبرز للعنف الطائفي الذي استهدفه بشكل ممنهج، و واضح، و خسر العراق مئات من مبدعيه و كفائاته العلمية، لكن تلك الصورة لن تكون كاملة أذا ما رصدنا، أصواتاً وطنية، حرة، تصدت و كتبت و صدحت رفضاً للعنف و الكراهية و رائحة الموت التي كانت تنتشر مع صباحات بغداد الساخنة!.

سنجد مثلاً في العام 2006، شاعراً غنائياً، يكتب نصاً يدعو لتجاوز لغة الثارات، و يدعو للتفكر و العقلانية، و يعصف ذهنياً في الذاكرة الجمعية، و يخاطب العاطفة الانسانية،  و يستحث فيها المشترك الوطني و الروحي، يخاطب الوجدان البعيد عن تلك الأنتماءات القاتلة. 

نعم، سنجد الشاعر التقدمي فالح حسون الدراجي، يثير السؤال الأهم، و الأكثر صدمةً للوعي العام، فهو يقول للجميع" ضاع مني ولد!"، هذه الجملة الصعبة، بل المفجعة، التي هزت الجميع، و افقدتهم جزءاً من عقلانيتهم، لكنه سرعان ما سيعود ليقول لنا، أنه تجاوز هذه الفاجعة، تحت ضغط خوف أخر، أي خوف؟ يُجيب " : و خايف على الثاني"، أنهُ يقول بوضوح أن الدوامة التي تلقفت ذلك الولد البريء لن تتوقف ابداً، أن لم نُحكم العقل، و نبتعد عن الإنفعال، فقد نخسر الأخر، و من بعد نفقد أخرين، و هكذا دوليك !

قد يبدو أن الدراجي وقتذاك، يغرد خارج السرب، و قد يبدو بحديثه هذا، مجرد جنون، لكنهُ ينطلق من مبدأ قل كلمتك، و أسمع صوتك، فأنت " كشاعر أو مثقف" ينبغي ان لا تعزف مع الجوق، و ينبغي أن يكون لصوتك و خطابك ميزته.

هكذا سنجد، في ذروة ذلك العنف الرهيب، من يكتب نصاً غنائياً تقول كلماته:

ضاع من اديه ولد .. 

و خايف على الثاني

گلبي على ديرتي

 و أهلي و خلاني

و رغم ضياع الولد، و رغم قسوة جراحات تلك الأيام، الا أنه لم ينس، أن يذكر الجميع، أن ثمة ما هو أعلى و أكثر من تلك الخسارة الفادحة، أن الوطن الذي أن ضاع، فلن تكون لحياتنا قيمة ابداً فقلبه على تلك الديار، و الأهل و الخلان الذين لو طالتهم تلك النيران فلن تتوقف البتة.

ينطلق الدراجي في نصه الغنائي، ليذكرنا جميعاً، بمخاوف نسيناها تحت ضغط تلك العاصفة الهائلة، و تلك القيامة الحمراء، فيكتب لنا خوفنا على اطفالنا، على طيورنا، على اشجارنا، على الاخر الذي نظن انه صار عدونا، لكن الحقيقة، هو هدف مثله، مثلناً، فكيف حولته الميديا الحاقدة الى عدو، يقول :

خايف على كل طفل ..

 كل طير .. كل نبته

و صدگني مو بس عليّ..

 خايف عليك انته

و لا تظن وحدي الهدف

انته الهدف و آني

ضاع من اديه ولد

خايف على الثاني 

الدراجي ينطلق أبعد، ليقول للجميع، نحن في دوامة لا ناجِ منها، أن بقينا ندور في أتونها، فكلنا خاسر، و كلنا ضائع، يقول :

مو آني بس اخسرت

انته اخسرت مثلي

چان ابني لابنك اخو

و اهلك اهل لاهلي

منين اجانه العدو

و فرق اخو عن اخو

يا وطن انته الابو

كل ولدك اخواني

ضاع من اديه ولد

خايف على الثاني

و حتى لا يظل النص الغنائي حبيس تذكيرنا المستمر، بحجم الخطر، و حجم المأساة التي وجدنا أنفسنا محشورين في وسطها، يعود ليذكرنا بخطاب الوطن، بخطاب العلو الذي يضاهي الشمس، و يدعونا للإنطلاق فوراً نحو استعادة الأخاء، و تجاوز الفتن المظلمة، و كسر تلك الموجة العاتية، يقول :

حته يظل الوطن 

عالي بعلو شمسه

خلينا ننسه المضى

و نبتدي من هسه

شما فرقتنا المحن

و طشتنه ريح الفتن

يرجع يلمنه الوطن

واحد مع الثاني

ضاع من اديه ولد

خايف على الثاني

هذا النص الغنائي، وجد فيه المطرب الرائع عبد فلك فرصة، و لحظة مهمة و فاصلة ليقول هو الأخر كلمته، و ليصدح بصوته، بقوة أمام خطاب الكراهية المتدفق كميزاب الدم، فلحنه بأروع ما يكون، و أداه بحس رائع، و غناه ليضعنا امام كل ما تضمنه من معانِ وطنية، و أنسانية، و كتب مع الدراجي شهادة وطنية تاريخية، ظلت في ضمير الشعب، و ضمير الثقافة الملتزمة، و الفن الأصيل الذي يعبر عن المفاصل المهمة في حياة الشعوب، و يكتب لها فصولاً ملحمية، تظل تعود اليها كلما أشتدت الأزمات، و كلما حاولت الرياح أن تفرق الجمع، و ان تدفع بالوطن نحو الخراب.

لقد كانت أغنية " ضاع من ايديه ولد"، صرخة مبكرة، و انتفاضة فنية بوجه الطائفية و مروجيها، و كانت نداءً وطنياً خالصاً، كنا كشعب بأمس الحاجة اليه، و كانت رسالة الفن هي الوحيدة القادرة على مخاطبة عقول و ارواح أدخلتها تلك اللحظات في جحيم الأسئلة الصعبة. 

بقي ان نشير الى أن العمل من اخراج المبدع الكبير، الفنان حسين الأسدي، الذي اجاد هو الأخر في صناعة توليفة ثقافية، فنية، أرخت لمرحلة صعبة، و مؤلمة، زالت و لكن ينبغي ان نظل نستذكرها حتى تكون عبرة لتجاوز تلك الانقسامات البغيضة.

علق هنا