هل كان (المنكوب) شيوعياً؟

بغداد- العراق اليوم:

كتب فالح حسون الدراجي:

رحل قبل خمس سنوات تقريباً ( أسطورة الجنوب ) سلمان المنكوب، بعد أكثر من ثمانين عاماً صرف أيامها ولياليها في طول وعرض الحياة.

رحل المغني والشاعر المبدع، ( وعصفورالجنوب الشجي ) بعد عمر قضاه عاشقاً إستثنائياً، ومبدعاً إستثنائياً، وشخصاً إستثنائياً أيضاً..

لقد قضى المنكوب سنين عمره هائماً في صحارى الزمن القاحل تارة، ومترعاً بنبع الفن الإبداعي الحلو تارة أخرى.

نعم، رحل ( زوربا الجنوب ) المدهش سلمان غلام علي، بعد ثمانين سنة مليئة بالأحزان والأفراح والخيبات والإنتصارات، تاركاً وراءه تأريخاً فنياً مميزاً، وسجلاً شخصياً حافلاً بالدهشة، والنُبُل، والمُتناقَض الغريب أيضاً..

كما ترك وراءه أسئلة تبحث عن أجوبة. لاسيما وأن الرجل لم يكن سهلاً، ولا بسيطاً، أو مكشوفاً قط. وبرحيله الأبدي رحلت معه والى الأبد أشياء غامضة عديدة تبحث عن تفسير لها،

كان بعضها يتعلق بزوايا معتمة من حياته، وبعضها يتعلق بهواجسه الذاتية، وتوجهاته الشخصية، وأفكاره السياسية التي نجح المنكوب كثيراً في إخفاء بعضها لأسباب شخصية وعائلية تمنعه من البوح بها.

ولعل أسباب سجنه لعشر سنوات في خمسينات القرن الماضي أحد هذه الأسئلة.. وأسئلة أخرى تتعلق بكراهيته الشديدة لحزب البعث، وتعلقه المتين بالزعيم عبد الكريم قاسم، وأيضاً بتمرده على التقاليد العائلية، وخروجه عن نظام النسق الديني في شجرة العائلة الممتد حتى الدرجة العليا في سلم الفقه، أي درجة بلوغ جده ( شرهان ) مرتبة آية الله الفقهية.

وفي إختياره لطريق مختلف عن طريق العائلة. ولعل من بين أهم تلك الأسئلة التي ظلت بلا أجابة حتى هذا اليوم، هو سِّر علاقته بالمرأة. تلك العلاقة التي وصفها يوماً في مقابلة إذاعية بالأوكسجين حتى أنه قال: بأنه لن يقدر العيش بدون أربعة أشياء :-

لسانه الذي يغني به، وعُوده الذي يعزف عليه ألحانه، ومسدسه الذي يحفظ له حياته، والمرأة التي هي حياته كلها.

وللتأكيد على حبه وولعه بالمرأة، زواجه ( رسمياً ) من ثلاث عشرة إمرأة، عدا علاقاته الجانبية التي لاتعد ولا تحصى..

وثمة أسئلة أخرى ظلت بلا أجوبة مثل كيفية تعلمه القراءة والكتابة لخمس لغات أجنبية وهو الذي لم يتجاوز الدراسة الإبتدائية في تعليمه، وكيفية تمكن هذا الرجل من معرفة العروض والقواعد النحوية، حتى أنه كتب الشعر الفصيح دون أن يدرسه في مناهج النحو والبلاغة.

وكيف إستطاع تعلم العزف على اربع آلات موسيقية دون معهد، او مدرسة موسيقية ..؟

أتحدث عن هذا الفنان الكبير.. على الرغم من إن الرجل لم يكن صديقي شخصياً قط. ولم ألتق به وجهاً لوجه سوى مرة واحدة زارنا بها في البيت.. لكن عدداً من الظروف التي وضعتني في موضع القريب منه، جعلتني قادراً على الحديث عن شخصيته الفريدة والمميزة، بل وجعلتني قادراً على الإجابة عن اسئلة بارزة، ظلت تبحث عن أجوبة شافية. لذا فإني سأطرح اليوم موضوعاً لم يطرحه أحد من قبل، والمتمثل بعلاقة المنكوب بالحزب الشيوعي العراقي، وأظن بأن الذي أعرفه في هذه القضية تحديداً، قد لا يعرفه غيري، ربما حتى الحزب الشيوعي نفسه.

لقد أتاحت لي بعض العوامل المساعدة أن أعرف عن الرجل الكثير. ومن بين هذه العوامل، أن الفنان (المنكوب) ولد في نفس المدينة التي ولدتُ فيها، والتي ولد فيها أبي وأمي وأجدادي أيضاً، وأقصد بها (ناحية كميت) التابعة لمحافظة ميسان (جنوبي العراق).

فنعرف عائلته معرفة جيدة. ولعل من الصدف الحسنة، إننا أنتقلنا بعد ذلك معاً الى العاصمة الحبيبة بغداد، وسكنا في مناطق الصرائف، ثم إنتقلنا سويَّة الى مدينة الثورة (مدينة الصدر).. وما زلنا نسكن في هذه المدينة الطيبة حتى الآن..

وثمة أمر جعلني أتعرف على المنكوب أيضاً، وهو برأيي العامل الأهم، والمتمثل بعمق العلاقة الأخوية التي جمعت بين أخي المناضل الشيوعي الشهيد خيون حسون الدراجي (أبو سلام)، وبين الفنان المنكوب. إذ بدأت هذه العلاقة من نقطة الإعجاب الفني، حيث كان أخي معجباً جداً بفن المنكوب، وكان يحضرحفلاته الغنائية كلما سمحت له الظروف، كما كان يقتني أشرطته الفنية التسجيلية. بينما كان المنكوب يحب في شقيقي جرأته، وبسالته، وطيبته، وكرمه غير الطبيعي.

بعد ذلك أمتدت العلاقة بينهما، وتوثقت حتى أصبحا صديقين حميمين .. لم يكن مفاجئاً لي قط رؤية المنكوب في بيتنا في أحد الأيام، ليس لأنه (إبن ولايتنا) فحسب، بل ولأنه شخص محترم جداً، يمتلك من القيم والأخلاق والمباديء وعزة النفس مايجعله معززاً مكرماً، ومرحباً به في كل بيت شريف ..

وفي الوقت الذي كان فيه شقيقي مشغولاً بأمور التنظيم الحزبي، وبمشاغل العمل بمعمله الذي كان ينتج مواد البناء مثل (الماستك والفلينكوت والأصباغ)، كان يمنح بعض وقته للقاء الفنان المنكوب وصديق ثالث لهما، فكانوا يخرجون سوية في الشهر مرة تقريباً لقضاء سهرات فنية (وإستجمامية) خارج بغداد..

وفي يوم مرَّ عليه أكثر من أربعين عاماً رأيت المنكوب يعطي لشقيقي خيون ديناراً - وكان الدينار وقتها مبلغاً جيداً، بل وفخماً - وسمعته يقول له : - خويه أبو سلام .. حزبكم هذا نهيبة ..!! فضحك خيون وقال له : لا وعيونك أبو داود، حزبنه أفقر حزب بالدنيا.. بس انت الوحيد اللي تدفع دينار براسه .. والبقية كلها تدفع دراهم ، لو فلسان .. وفي اليوم الثاني، حاولت أن (أقع على العِلَّة) كما يقولون، فسألت شقيقي الراحل وقلت له : بشرني المنكوب صار عضو بالحزب، لو بعده مرشح؟ فضحك، وقال : مجنون من يرفع طلباً لضم المنكوب الى الحزب.. ومجنون من يوافق على ضمه أيضاً ..

قلت له : لعد هذا الدينار شنو ؟ قال : هذا تبرع منه الى الحزب، فقد كنت أستلم منه نصف دينار كل شهر، لكنه رفع التبرع في الشهر الماضي الى دينار كامل.. قلت له : زين إذا هو هيچي يحب الحزب، ويدفع له تبرعات أكثرمن إشتراك خلية تنظيمية، شنو المانع من أن ينتمي للحزب ؟ فقال أبو سلام : المنكوب شخصية عجيبة وغريبة.

فهذا الرجل يصلح لكل شيء إلاَّ للحزب الشيوعي، على الرغم من انه يحترم نضالات الحزب، ويعشق مباديء الحزب أيضاً ويحفظ في قلبه حباً خاصاً للشهيد سلام عادل. ويمتلك شخصياً وسياسياً وأخلاقياً كل مقومات الشخص الشيوعي، لكن الرجل عصبي وحاد المزاج .

وعلى طول (مسدسه بحزامه)، وليس غريباً أن تراه في أحد الإجتماعات يسحب مسدسه على مسؤوله الحزبي، إذا ما طلب منه هذا المسؤول إنتقاد نفسه أمام الرفاق !! ناهيك عن أن الرجل لايؤمن بالتقيد، والإلتزام، ولا الضبط والربط، خاصة في موضوع الإجتماعات الحزبية، ودقة مواعيدها.. فهو يحب ان يعيش عصفوراً حراً بلا قيود.. فضلاً عن الأساسات العائلية المتجذرة دينياً في أعماقه النفسية .. قلت له ضاحكاً : وبماذا يعلق المنكوب عندما يعطيك التبرع كل شهر، وأنا أعرف أن الرجل يعلق على نفسه أحياناً، إن لم يجد أحداً يعلق عليه ؟ قال ضاحكاً : في كل مرة يقول شيئاً مختلفاً عن المرة سابقاً، ولكنها لاتخلو من الدعابة واللطف، فتارة يقول لي : هاك خويه أبوسلام، هذا الدينار مالي، وعساها برگبة ليلين ( كان يلفظ كلمة لينين - ليلين - )..

وتارة يقول : ولكم چا آنه أدگ وأغني الليل كله، وأطيهن الصبح لليلين..؟ وتارة يقول : ولكُم هذا الوَدي مال أبو غلام ما يخَّلص - والوَدي هو الحصَّة التي يدفعها الرجل في العشيرة أثناء الفصل العشائري -. لكن الحق - والكلام لم يزل لأخي خيون - فقد كان الرجل مُحباً للحزب الشيوعي كثيراً، إذ دائماً يصفه بحزب الرجال الشجعان. .وعودة الى عنوان المقال :- هل كان المنكوب شيوعياً ؟ فأقول : لم يكن المنكوب شيوعياً، لكنه كان صديقاً لحزب الرجال الشجعان.

falehaldaragi@yahoo.com

علق هنا