25 عاماً على رحيل رسولة الصبر والأحزان

بغداد- العراق اليوم:

فالح حسون الدراجي

افتتاحية جريدة الحقيقة

حين يقول النبي محمد ( الجنة تحت أقدام الأمهات)، ولم يقل الجنة تحت أقدام الأنبياء أو حتى الشهداء، فإنه أراد أن يمنح الأمهات أعلى مراتب التقديس والتمييز العالي، فوضع الجنة بكل رمزيتها تحت أقدام أمهاتنا الطاهرات، وفي الوقت نفسه، أراد أن يوفر علينا - نحن الأبناء - اشكالات المواجهة مع حماة الممنوع، لنقول في أمهاتنا اجمل ما يمكننا قوله بحرية، وأن نلبس أمهاتنا أفخر وأفخم التوصيفات والألقاب، ونرسم لهن صوراً باهرة يعجز عن رسمها عباقرة الرسم  والتشكيل. كما أراد النبي أن يزيل الخطوط الحمر عن طرقنا المفخخة بالتكفير والتحريم، ويرفع عنا المحظور والمخيف .

 وعلى هذا الأساس، ارجو أن تسمحوا لي - وقد سمح قبلكم النبي محمد - أن أصف أمي الحاجة أم خيون، برسولة الصبر والأحزان.. فوالله ما رأيت، ولا سمعت، ولا قرأت عن أمّ مثل أمي، تلك الجنوبية العمارية الصافية كصفاء الفجر عند مطلعه، والمسكونة بالحزن أبداً، فهي التي ولدت، وولد معها نهر طويل من الدمع، وجبل عالٍ من الصبر، فكان الصبر يمشي مع مصائبها أينما تمشي، ويقعد أينما تقعد.. وليس صدفة قطعاً أن تحمل أمي اسم (صبرية) !

لذا، فإني سأتحدث اليوم عن أمي الصابرة، الحزينة، الدامعة في السر والعلن،

دون الحديث عن أمي (قارئة القرآن) منذ نعومة أظفارها، والتي تعلمت القراءة في أول صباها عند الكتاتيب، وهنا أود أن اعترف بأني أحببت سماع تلاوة القرآن كل صباح، بفضل أمي وليس بفضل غيرها، فقد زرعت هذا الحب في وجداني زرعاً، حتى بات سماع عبد الباسط ومعه (فيروز) ، مفردتين ثابتتين في صباحاتي اليومية، أينما كنت، وحيثما أكون..

كما لن أتحدث اليوم عن أمي (الكنز) الذي يحفظ مئات الأبيات من الشعر، وكم تمنيت أن تسألوا صديق عمري الشاعر الكبير كريم العراقي-عافاه الله وشافاه من مرضه - ليحدثكم عن الساعات الطويلة التي أنفقها في بيتنا البسيط، وهو يجلس على الأرض قبالة أمي، صاغياً، مستمعاً بطرب تارة، ومدوناً لبعض ما تقوله من أبوذيات وقصائد ورباعيات ودارميات تارة أخرى .. ولعل الأمر المهم الذي أردت قوله، إن (جلسات) كريم مع أمي بدأت مذ كنا طلاباً في الثانوية ولم تنقطع حتى افتراقنا في مفترق الطرق، وعند تشعب دروب الحياة، وقد كان كريم يحثني دائماً بقوله: (أمك كنز فأرجوك أن لاتضيعه يا فالح )!

ولن أتحدث في هذا المقال عن أمي الكريمة الطيبة المعطاء، فأصدقائي وأصدقاء أخوتي كثيرون وهم أحياء أطال الله في اعمارهم، ولديهم الكثير من القصص والحكايات التي يمكن أن يروونها عن (عزوبية أم خيون وطيبتها)

كما احتفظ أنا شخصياً بعشرات المواقف لهذه الجنوبية الكريمة الفاخرة.

ولن أتحدث عن وطنية أمي، مكتفياً بما كتبته عنها وعن روحها الوطنية ومواقفها الانسانية المميزة، (جريدة طريق الشعب / الصفحة الأخيرة) قبل  45 سنة ..فقد قالت الجريدة عن أمي كلاماً جميلاً يتمناه كل ابن لأمه.

 نعم، سأترك الحديث عن هذا الإرث المزهر الى أوقات أخرى، وأتحدث اليوم - في سنة رحيلها الخامسة والعشرين- عن صبرها العجيب، وحزنها النبيل، ودمعها الذي لم يتوقف حتى وهي تمضي الى أبديتها، حيث انزلقت دمعة على خدها الطاهر وهي ترحل، وكأنها تواصل ذرف دمعها حتى اللحظة الأخيرة من عمرها الكريم.

لقد كان لحزن أمي ودمعها المتدفق طيلة 67 عاما، مبرر وعذر مشروع، فقد فقدت أباها وهي في مقتبل شبابها، وفقدت أختها الوحيدة ( أم رسن) وهي في متوسط عمرها، وفقدت ثلاث بنات من بناتها وهن في عز شبابهن، وفقدت حفيدتها الشابة التي لم تتجاوز العشرين من عمرها.. ولعل الأكثر وجعاً على قلبها، كان فقد ولدها، وشمعتها، وضوء عينيها ( الشهيد خيون أبو سلام) أحد أبطال الحزب الشيوعي العراقي، الذي أعدمه نظام صدام وهو لم يصل الثلاثين من عمره. والمصيبة التي أوجعتها، أنها لم تتسلم جثته، ولا خبراً عنه منذ اعتقاله في الأول من حزيران العام 1980 حتى وفاتها في 14 كانون الثاني 1997، فكان وجعها مضاعفاً وقاسياً، ولعل سمفونية المقابر الجماعية التي كتبتها يوم سقوط النظام البعثي، والتي أداها القارئ باسم الكربلائي بصوته الموجع، كانت عبارة عن استعارة من خزانة اللاوعي في ذاكرتي، وصورة ناطقة عن أوجاع أم خيون، الأم الصابرة المظلومة التي ظلت تنتظر مجيء ولدها  طيلة 17 عاماً، لكنه للأسف لم يأت .. !

وأذكر أن أمي كانت تجلس في مصباح كل عيد - كل عيد - أسفل سلم البيت، وتحديداً عند (الباية الأرضية الأخيرة من الدرج) وتبدأ (بالنواعي) الموجعة، التي كان سماعها كافياً لإسقاط جبل من فولاذ، لو كان لهذا الجبل قلب ينبض !

وكانت أمي تردد عشرات النواعي والابيات بصوت تبلله الدموع ويكسره الوجع والشوق والحنين، وكنت احفظ منها هذا البيت الدارمي الذي كانت تردده كل يوم:

(بالسجن واترجاك بس لا بالگبور .. من گلبي خذ لك نار خل جدرك يفور ) .. ثم تختتمه بـ: ( يتلولح يريد يطيح گلبي يبو أسليم ييمه)

لقد ظلت أمي تبكي على فراق ولدها طوال 17 عاماً بلا انقطاع، ودون أن تجف منابع عينيها .. أو ينكسر صبرها، أو ينثلم صوتها، فهي تبكي وتنعى وتقاوم، لكن قلبها خذلها فسقطت صريعة من شدة وجعها وحزنها، أو ربما من (شدة) صبرها وتحملها !

ألم أقل لكم، إن أمي رسولة الصبر والأحزان؟

علق هنا