فالح الدراجي يكتب عن احداث ليلة عيد مجنونة جرت قبل ست سنوات

بغداد- العراق اليوم:

فالح حسون الدراجي

هذا المقال كتب ونشر في جريدة الحقيقة، والعديد من المواقع والوكالات قبل ست سنوات.. وتحديداً في ليلة العيد .. أعيد نشره، إستذكاراً للأصدقاء الذين كانوا معنا في تلك الليلة المجنونة، لكنهم رحلوا، ليتركوا لنا ليالي العيد القادمة دونهم، كئيبة ومرة، و( عاقلة) .. اليكم المقال كما نشر قبل ست سنوات :

—————————————————

ليلة مجنونة بإمتياز !

تلقيت اكثر من اتصال وطلب، من صديق عزيز (مُعتَّق)، يسألني إن كان بالإمكان أن نحتفل سوية في إحدى ليالي العيد بطريقة مجنونة، فنجعلها ليلة من (ليالي زمان) بحيث يجوز فيها كل شيء، من الغناء، والعود والشعر، والطرب الأصيل، والأطعمة الدسمة (الباچة والتشريب ومشتقاتهما)، الى جميع مستلزمات (السلطنة)، من سجائر، وأشياء أخرى، (ولحَّد يسألني عن الأشياء الأخرى رجاء)..!!

وهذا يعني أن يأتي الأصدقاء للسهرة بدون أكياس الدواء، وتعليمات الأطباء.. فلا ضغط، ولا سكر، ولا قرحة، أو قولون..!!

ولكي تكتمل الجلسة جمالاً وروعة طلبت أن ترمى كل شروط، وأوامر (وزارات الداخلية) الخاصة بنا واحداً واحداً.. فأنا أعرف جيداً أن هناك اكثر من صديق في هذه المجموعة (الباسلة)، سيغادر الجلسة في الساعة التاسعة مساء بمجرد أن يأتيه إتصال من (وزارة الداخلية) حتى لو كانت أم كلثوم حاضرة معنا، أو مظفر النواب ساهراً في جلستنا. لذلك يجب على الأصدقاء المُحتفين بروعة ما بقى لنا من ألق وجمال، وإبداع، وذكريات، التحلي بالشجاعة لمرة واحدة، وإغلاق أجهزة الهاتف هذه الليلة، رغماً عن أنف (الداخلية)، وليأتي بعدها الطوفان!!

وما ان حل المساء، حتى (أشتغلت التلفونات السرية)، كأننا في موعد حزبي سري، أين انت ياسعد عبد الحسين؟ وأين أنت يا قاسم؟ يا نعيم لا تتأخر..! (سعد حلاوة وينك؟) وأنت يا علي المالكي، ويا عباس غيلان، ويا فلان وفلان، رجاء الجلسة ستكون في التاسعة، وفي (شقة علي بلبل)!!

فحضر الجميع حسب الإتفاق، وحضرت (الأشياء) كلها.. وتمنيت على الجميع أن تكون الليلة بدون سجائر، وبدون سياسة، فكلاهما يضر بروعة الجمال.. لقد أردناها ان تكون ليلة من العمر، ليلة خضراء لا نسمح فيها للسياسة أن تنغصها.. فإذا ما دخلت السياسة من الباب.. فسيخرج الجمال من الشباك حتماً..

وابتده المشوار.. آه يخوفي.. آه يخوفي.. من آخر المشوار.. آه يخوفي!!

في البدء فوجئت بفتى تجاوز العشرين بقليل، وحين سألت عنه، قالوا لي: أنه علي أبن أخ علي بلبل.. فامتعضت.. لكن ما ان مسك آلته، وراحت أصابعه تضبط (وتدوزن) مفاتيح العود، ويدندن دندنات بسيطة حتى احببته بسرعة.. أحببته لموهبته الموسيقية الناصعة في هذا الزمن المغبر، والمترب. والرائع انه بدأ بأغنية صعبة جداً، هي رائعة بيرم التونسي وزكريا احمد (الورد جميل) التي تعتبرعملاً غير سهل بالمرة.. فأجاد الفتى بالأداء، والتلوين والعزف. ثم راح يسكرنا بألحانه الشخصية، فطربت لألحانه وأدائه، لأرفع يدي محيياً وشاكراً عمه على هذه الهدية الرائعة.. بعد ذلك طلبنا من سعد عبد الحسين أن يسمعنا أغنيته الرائعة التي أطلقها من برنامج أصوات شابة عام 1985، رغم أن سعد هجر الغناء منذ سنوات طويلة، فوافق الرجل بعد إلحاحنا، وكانت أغنية (لا على بختك لتخليني) بصوته في هذه الجلسة كالخمرة المعتقة جداً في أفواه المجانين، خصوصاً حين يقول (لا على بختك لتخليني)، بذلك الإنكسار العاطفي الرهيب، إذ يشعرك لحظتها بأن الكون كله يتعاطف مع هذا الإنكسار، وجماهير العشاق كلها تقف تحت نافذة الحبيبة، راجية منها العودة لقلب حبيبها سعد!!

بعدها ينتقل العود الى يد الملحن قاسم ماجد، وقاسم ملحن مبدع، قدم عشرات الألحان الجميلة خلال ثلاثين سنة من العمل التلحيني، فغنى له سعدون جابر، وعبد فلك، وسعد عبد الحسين وحسن بريسم وياسين سلامة وعلي العيساوي والمرحوم ضياء حسين وأوراس وفيصل حمادي وغيرهم لذلك وجدنا قاسم ماجد حائراً بما سيقدمه في هذه الليلة المستحيلة، ما جعله يقدم بصوته أعمالاً قديمة، وأخرى جديدة لم نسمعها، بسبب الظروف التي مرت بنا، وبقاسم الذي غادر العراق، وأقام في البحرين لسنوات طويلة.

ثم راح العود يتنقل من يد الى يد برشاقة.. وكان للشعر حضور في هذه الليلة، وكذلك الغناء الجماعي، لينتهي عند نشيدنا السومري المجنون، أقصد به أغنية الراحل الكبير داخل حسن، وهي: (ظلت لما أموت يا بويه)..

وفجأة، وبدون مقدمات، نهضتُ، فنهض الجميع معي، وبدون أي أتفاق، مددنا أيادينا جميعا.. وأطلقنا صوتنا بقوة كأننا في نشيد سريالي كتب ولحن ورفع، دون أن يكتب أو يلحن من قبل، فخرج الصوت قوياً صادقاً شق صفاء الليل بحدته.. وكانت الأغنية هتافاً فقط، قلنا فيه:

(عاش الحشد الشعبي عاش..عاش الحشد الشعبي عاش)!!

أي جنون لذيذ هذا.. وأي إنتماء حقيقي وصادق وجميل، لهؤلاء المجانين بحب العراق.. كيف كسرنا لحن أغنية الليلة عيد، التي كنا منسجمين فيها غاية الإنسجام، وكيف تغير الأيقاع، بحيث (راحت أم كلثوم بالرجلين)، لتحل بدلاً عنها هذه الأصوات التي تنشد لأبطال الحشد الشعبي. (أريد أعرف.. الحشد الشعبي شجابه بهاي الساعة)؟

إنه جنون العشق للوطن، وجنون الحب للمضحين الأبطال وإلاَّ بربكم من يفعلها غير المجانين في هذه الساعة، وفي ليلة العيد الجميل، وفي هذا الوقت المستقطع من العمر.. لا سيما وأن الفجر قد طرق أبواب الناس، حتى سمعناه يهتف معنا: عاش الحشد الشعبي عاش..

وقبل أن نغادر.. إتفقنا على صناعة إنشودة جديدة للحشد الشعبي. وفي اليوم الثاني كتبتُ فعلاً نص (الحشد الشعبي)، ولحنه قاسم ماجد، وحفظه المنشدون وسيسجل غداً في إستوديوهات شبكة الإعلام العراقي.. فإنتظروا هذا العمل الذي كتب ولحنَّ أثر سهرة مجنونة، في ليلة أكثر

علق هنا