النخيل العراقي حين يثمر قصائد وانتماءات

بغداد- العراق اليوم:

جواد الحطاب

.................................

لم تكن مجرّد أمسية ..

فمنذ الجزم الأمريكية التي وطأت أرض بغداد المقدّسة وقصائدي المعروفة ضد "الاحتلال" وانا اتجنّب – ما أمكنني – الإشتراك، او الإستجابة، لأيّ قراءات شخصية او في مهرجان ما، وان حصل ذلك فلسبب ضاغط بالتاكيد، كما حدث في افتتاحي لمهرجان المربد الأخير- 2019 " الدورة 33 " حين خُطط لهذا المهرجان ان يتقاطع، وان يُمنع من حضوره الشعراء، فاستحضر بي القيمون عليه بصرتنا لأفتتح فعالياته، ولم اتردّد فهي البصرة، وهو المربد الذي حمل اسم " دورة حسين عبد اللطيف" الصديق، والشاعر البصري الكبير، رغم تحذير الكثير من الأصدقاء بان ذلك سيضعني بمواجهة الجهات التي دعت الى مقاطعته، لكنها البصرة، ولكنها روح المشاكسة في داخلي.

ذات مربد ..

قرأنا أنا والشاعر العربي الجميل شوقي بزيع، كان ذلك قبل اكثر من ربع قرن..

ومن ذلك التاريخ ونحن نرتبط بصداقة حميمية لم تزل "طازجة" الى اليوم، حتى انه حين استضافته منظمة " نخيل عراقي " قال لي الصديقان مجاهد ابو الهيل، وعارف الساعدي، انه ألحّ – أصرّ اصرارا – على حضوري قراءاته التي اعادته الى المتلقي العراقي بكامل شموخه الشعري، وعذوبته التي أشتهر بها.

بعد انتهاء الأمسية المعافاة بالشعر، وبتقديم رائع وجميل من المبدع الساعدي عارف، تساءل الشاعر "ابو الهيل" : ِلمَ لا تكون أمسيتنا الثانية للحطّاب ؟

.. كان كل ما رأيته في ظلال "النخيل" يجعلك لا ترفض مثل هذا الطلب.. فوافقت .

ولم تك مجرّد أمسية .

الإعلان الأولي عنها يؤكّد انها ستكون في الساعة الخامسة عصرا ؟

قلت للصديق مجاهد انه وقت مبكر ومحرج لغالبية الاصدقاء، خصوصا من الموظفين، فاتفقنا ان نعلن عن موعدها في الساعة الخامسة والنصف، على ان نبدأ في السادسة ..

ربما كانت الصديقة الروائية والقاصة الكبيرة عالية طالب أول القادمين لأني وجدتها في مكتب ابو الهيل قبلي ؟!! وهذا ما يمكن ان أصفه بقمة الذوق والكياسة حين تبادر قبل الجميع لحضور فعالية صديق لك، ولو ان هذا هو ديدن هذه الأديبة "العالية" التي تعرضت الى الكثير من الظلم في الفترات السابقة، لكن ذلك لم يثلم كبرياءها العراقي .

قبل السادسة بعشرين دقيقة تقريبا، استدعى المتابعون للقاعة الناقد الدكتور حمد الدوخي الذي اتفقت معه ان نكون جوار بعضنا حين نعتلي المنصة، وحين تبعته فؤجئنا بأن الجمهور قد ملأ القاعة، حتى بات البحث عن كراسي إضافية مشهد مفرح، وهو الذي أجبرنا ان نبدأ القراءة قبل موعدها .

وأسجّل اعتزازي هنا بالنائب المثقفة، الصديقة "سروه عبد الواحد" التي احتلت لها مكانا قريبا من المنصة بهدوء لافت.. هي والسياسي المهذب الدكتور "شاكر كتاب" الذي فاجأني بسعة اطلاعه على الشعر والشعراء، ومدارسهم الأدبية.

في التقديم الذي أعدّه الناقد الدكتور حمد الدوخي :

(الحطَّاب) شاعر أكبر من التقديم، وأعلى من طبول البلاغة، وأنا هنا بصفتي قارئاً أقول هذا، لأنه شاعرٌ يحمل مشروعاً عصيَّاً على الإحاطة والتشخيص، فـ(الحطَّاب) تجرِبةٌ تنمو دائماً، ولا تتوقَّف، لأنها مواكِبةٌ ومتنبِّهةٌ؛ إذ ألمَّت بالما قبل الشعري، ووعت وتفحَّصت الحاضر، وأعلنت تفرُّغها لاستشراف المستقبل في ضوء معطيات الماقبل والحاضر وبإضاءةِ بصيرةِ المستبطنِ العارفِ بما يجب أن يكون عليه النص على الدوام ليظل جاهزاً لكل قراءة؛ لهذا كلهِ نجد نص (الحطَّاب) نصاً يؤلم اللغة، ويتعب التلقي، ويُحيُّر التأويل ذلك لأنه نصٌّ لا يقف عند حدود تأويلٍ قابلٍ للتعريف والاجتياز، فهو نصٌّ نابت في لغة دائمة الخضرة.

بمثل هكذا كتابة شعرية يمكننا أن نقول أننا نقدم شاعراً اختزل أساليب الشعرية العربية بوعي، وقد شكَّل أنموذجاً يصلح عيِّنةً معياريَّةً لمطالعة مستوى الشعرية العربية المعاصرة..

كتابة باذخة حقا، ومن ناقد متخصّص بالنقد الحديث ومناهجة، لتترك لي مهمة محاورة الأصدقاء الذين جاءوا من كلّ إحساس عميق، لسماع الحطّاب بعد غيبة طويلة عن الإلقاء .

بما يقرب من ساعتين، كان النخيل العراقي يُغرق المكان بالموسيقى، وبالقراءات، وبقصائد الغزل التي طولبت بها، بعد ان رثيت اصدقائي الراحلين مبكرا : صاحب الشاهر، وابراهيم الخياط .. وحين أعلنت عن رشدي العامل .. التي ما ان نطقت اسمها حتى بادرني الدوخي بانه كان على وشك ان يطلبها مني.

سأعود للأمسية وتفاصيلها في منشور قادم ان شاء الله، لأفي حق الأدباء الكبار، سيّدات وسادة، الذين جعلوا الأمسية كرنفالا مشاعريا، بدءا من الشاعرة الصديقة سلامة الصالحي التي اصطحبت معها ابنتها، الى الكاتبة انعام المظفر التي اصطحبت هي الأخرى مريمها، الى أبهات الدكاترة الذين سأجيء الى ذكرهم ممن تفضلوا بالحضور، مقدّما شكري لإتحاد الأدباء الورد، الذي حمل لي باقة ورده الشاعر الورد، الكبير منذر عبد الحر.

شكرا صديقي الباهي مجاهد ابو الهيل، فقد غمرتني بالهيل والرطب، حتى هطل سعف نخيلك بما ضمخ الروح من شجن ومحبة.

في الختام ..

ومن ورقة الدوخي، الذي دوّختني تماما سلطته البلاغية:

(جواد الحطَّاب) التَّجربة الحقيقية التي وعت مبكِّراً أن الشاعر مؤسسة كاملة؛ ولم ينجرَّ وراء غواياتٍ تُشبه الضوء المفاجئ لأنه الأعلم بسرعة خفوتها .. لذا لم ينظر إلى الشعر من زاوية الشعر فقط، فهو لم يكن مع الصورة على حساب القضية ولا مع العكس؛ إذ بقي مع تصوير القضية شعرياً ليقينه بدوام هذا التصوير؛ وبقي أيضاً مع الشعر قضية جماليةً وإنسانية، فمنذ إعلانه الإشهاري اللافت في عنوان مجموعته (سلاماً أيها الفقراء) يؤكد لنا، هذا (الحطَّاب) الذي لا يؤذي الأغصان، أنه مع الإنسان بكل كُلِّياته، أنه معه ومع جماليات قصيدته في الوقت نفسه.

كلّ أمسية والشعر العراقي بخير ..

علق هنا