الحلقة الأولى من كتاب محمد صاحب الدراجي: اللادولة، ام الدولة الخفية، من يحكم العراق؟

 عراق ما بعد ٢٠٠٣ دولة ام سلطة:

 يعتبر ما حصل في آذار عام ٢٠٠٣ صفحة جديدة في تاريخ العراق تم الترتيب لها منذ صعود صدام لواجهة السلطة عام ١٩٧٩ حيث أدى مهمتين رئيسيتين: الحرب العراقية الايرانية التي أدت الى استنزاف الطاقات البشرية العراقية، واحتلال الكويت التي أدت الى استنزاف الطاقات الاقتصادية للبلد من خلال الحصار الاقتصادي، مما أدى بالتالي الى خلل في البنية الاجتماعية للمجتمع العراقي جعلها تتقبل اي حل للخلاص من الواقع الموجود حينها، بغض النظر عن النتائج الجانبية للموضوع، فكان المواطن العراقي تحت ضغط معاشي واقتصادي كبير جدا. ناهيك عن الواقع السياسي بحيث بات يتقبل مضطراً اي جهة تغيير النظام القائم آنذاك على أمل ان يكون هناك خلاص من الواقع المزري، حتى وصل الامر ان البعض من العراقيين كانوا يتمنون الخلاص من المجرم صدام حتى لو على يد مجرم مثل شارون!! هذه التهيئة كانت في رأيي الخاص مرتبة ومخطط لها لقبول نسبي لعملية احتلال مباشر يتم بعدها رسم واقع سياسي واقتصادي واجتماعي جديد للعراق والمنطقة.

 لقد كانت ثمة كلمتان قالها محمد الدوري ممثل العراق الدائم في الامم المتحدة، خير تلخيص لنهاية مرحلة وبداية اخرى. والكلمتان هما (انتهت اللعبة)، ثم ادار وجهه للصحفيين وأغلق الباب، والمعنى الدلالي لهما: ان الدور المرسوم لحزب البعث في هذه المسرحية قد انتهى، وتم إنجاز المهمة، ويجب غلق الستار، ليبدأ عرض جديد، بشخوص جديدة، واجواء مختلفة، وهذا لا يعني ان الأشخاص او المتصدين بعد سقوط النظام بالضرورة جزء من اللعبة الجديدة، بل ان القوى الكبرى المسيرة لشؤون العالم، (والتي تأخذ أشكال مختلفة، فهي دول الدائمة العضوية في مجلس الأمن تارةً، وهيئة الامم المتحدة تارة اخرى، وأحيانا الاتحاد الأوربي او الناتو وغيرها، وهي كلها مسميات تعمل لصالح المجموعة التي تدير العالم بالخفاء)، قد اتخذت قرارها بان مرحلة (سايكس بيكو) قد انتهت، وهناك خارطة جيوسياسية جديدة بالمنطقة. لذلك فان الكثير من المتصدين للعمل السياسي من حيث لا يعلمون سائرين في هذا الاتجاه، وكلا منهم يعمل حسب متبناه السياسي او الديني او القومي، وحسب فهمه واستيعابه للواقع العراقي سياسيا واقتصاديا وجغرافياً وبنوايا صادقه. لكن البعض للأسف أصبح اداة لتنفيذ الفصل الجديد من اللعبة التي أسدل ستار فصلها السابق في عام ٢٠٠٣، وتم رسم دوره او إيجاد دور مناسب له للمضي في تنفيذ الخطة التي رسمت للمنطقة، تحت غطاء ما يسمى بالنظام العالمي الجديد. حيث تعتبر أمريكا الذراع المنفذ للمخطط العالمي الجديد، لذلك اصرت وبشدة على احتلال العراق عسكرياً، حتى بدون غطاء شرعي من الامم المتحدة بحجة إسقاط صدام ، مع العلم ان اسقاطه في عملية عاصفة الصحراء في كانون الاول عام ١٩٩١ التي أتت بعد غزو الكويت كانت اسهل بكثير، وفيها غطاء دولي وعربي، لكن القوى الخفية قررت ان التوقيت غير مناسب، بحيث يجب قتل الروح الوطنية لدى الشعب العراقي، وإذلاله بالحصار الاقتصادي قبل ان يتم تغيير النظام الحاكم، فكانت النتيجة ان يضحي الشعب العراقي بمئات الآلاف من ابنائه في الانتفاضة الشعبانية في آذار ١٩٩١ وان يتعرض الشعب العراقي الى اقسى عقوبة جماعة في التاريخ الحديث، حيث تم حصار الشعب العراقي، والإيغال في إنهاكه اقتصادياً، لتغيير السايكولوجية الاجتماعية, والسياسية، بينما لم يتأثر النظام بتاتاً بهذا الحصار، وكان هو واجهزته القمعية مستمر ببناء قدراته ومصالحه الذاتية.

 وَمِمَّا يثير السخرية ان النظام كان يدير عملياته التسليحية والاقتصادية الخاصة بغطاء من الامم المتحدة من خلال ما يسمى (برنامج النفط مقابل الغذاء)، والذي اكتشفنا فيما بعد انه كلمة حق يراد بها باطل، من خلال الكربونات التي كانت توزع لتلك الفنانة، او لذلك السياسي الأجنبي، اضافة الى صفقات تسليحية كثيرة. ومن الجدير بالذكر اني خلال فترة تولي وزارة الصناعة والمعادن اكتشفت ان هناك عقوداً بعشرات الملايين من الدولارات تحت غطاء هذا البرنامج، مع بعض الدول تخص الصناعات العسكرية، قد تم دفع مبالغتها من خلال شركة تسويق النفط الوطنية (سومو)، ولم يتم تنفيذ بنودها لحد الان، فقمنا بملاحقة هذه الدول والشركات بالطرق القانونية الرسمية، وعلى سبيل المثال فقط اسبانيا وروسيا البيضاء تجاوزت الأموال التي استلمتها من العراق المائة مليون دولار دون ان توفي بالتزاماتها، فطالبناها بمواد انتاجية، وليست استهلاكية بقيمة المبالغ زائدا فوائدها، ونتمنى ان تستمر الحكومة في متابعة هذا الموضوع المهم. ان الكثير يعتقد ان أمريكا تخبطت في العراق منذ بدء عملية الاحتلال لكني اعتقد ان الادارة الامريكية للملف العراقي تعمدت خلق حالة من الفوضى الادارية المسبقة التخطيط، ففي لقاء لبعض الناشطين في منظمات المجتمع المدني العراقية في بريطانيا مع وزير الخارجية البريطانية (جاك سترو) نهاية عام ٢٠٠٢ تم توجيه سؤال له حول ماهية السيناريوهات المحتملة بعد إسقاط النظام عن طريق التدخل العسكري وما هيه الخطط التي تم وضعها!! لكن ذلك لم يرق لأصحاب القرار العالمي في إدارة الملف العراقي فتم تغيير الحاكم العسكري بحاكم مدني هو (بول بريمر) الذي عمل بأسلوب اداري ينسجم مع توجهات النظام العالمي الجديد. لقد كان الأمريكان يتوقعون ان الشعب العراقي مقسم على ارض الواقع قوميا وطائفيا، خصوصا ان تجربة اقليم كردستان منذ عام ١٩٩١ أعطت مثل هذا الانطباع، فكانت خطتهم هي تكريس الوضع الانقسامي والتحدث بمبدأ المكونات الاثنية والمذهبية بدلا من النظام السياسي المتعارف عليه، الذي يعتمد على الحياة السياسية الحزبية العابرة للقوميات والطوائف لفرض واقع التقسيم عن طريق اللامركزية ثم الفيدرالية، ومن ثم تغيير الواقع الجغرافي اعتمادا على التواجد السكاني قوميا وطائفيا. لكنهم تفاجأوا بتداخل النسيج الاجتماعي بين أفراد الشعب العراقي، وصعوبة الفصل الجغرافي على أساس طائفي، فكان لديهم خيار واحد من اثنين، اما ان يغيروا خطتهم حسب الواقع الجيوسياسي والاجتماعي على الارض، وهو خيار تم استبعاده، او ان يتم تغيير الواقع لينسجم مع خططهم المعدة قبل عشرات السنين لتغيير الوضع في المنطقة، وهو للأسف الخيار الذي تم تبنيه من قبلهم وساعدهم فيه البعض من العراقيين بعلم او دون علم، او من منطلق العقد النفسية، الاجتماعية والسياسية المستصحبة من الماضي، لذلك نرى ان بعض الأجهزة الامريكية، وبغطاء دبلوماسي، وبشهاده الكثيرين، شجعت الانقسام والتقاتل الطائفي، والتهجير المتبادل لخلق ارضية مناسبه للتقسيم المستقبلي المنشود !

 

يتبع

علق هنا